لا يمكن وصف ما أحدثته زيارة رئيس القائمة المشتركة النائب أيمن عودة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بالعاصفة الشديدة أو بالزوبعة المؤذية.
فما رافقها من مواقف لم يخرج عمّا ألفناه في مثل هذه الأحداث، ومعظمها لم يرق لأهمّية هذه الزيارة وكونها، برأيي، حدثًا مؤسسًا في تاريخ مكانة الجماهير العربية في إسرائيل وعلاقاتها، التي إما أن تدوم وتطور، وإما لا، مع أهم عناصر التأثير على السياسات العالمية ومنصات هيكلة هذه السياسات الكبرى والصغرى في كل مكان ومنطقتنا كذلك، وعلى العكس من ذلك، فمن تناولوا هذه الزيارة وأخضعوها لأزاميل نقدهم أو قذعهم على الأغلب، لم ينفكوا يفعلون ذلك بمباضع بحثية، ومفاهــــيم تبدو في عصرنا وكأنها مستعارة من متاحف التاريخ السياسي والطبيعي، خاصة من أقسام المتحجرات فيها. فعدا عن كون أمريكا هي رأس الحية، لم نسمع موقفًا جديدًا جادًا من شأنه أن يقنعنا لماذا على قادتنا مقاطعة زيارة أمريكا، ولم ينصحنا هؤلاء، بالتبادل، كيف نضمن سلامتنا في هذه الغابة؟ ولماذا لا نحاول أن نحيّد سم تلك الحيّة أو نأمن شرها في مخادعنا، على الأقل إلى أن نستدل ونكسب ود أسودها ودببها ونمورها؟
لقد خلت صحافتنا المحلّية ومواقع الأخبار، ذات القيمة والمكانة، من مقالات الباحثين والمراقبين والمحللين، الذين تناولوا هذه الزيارة بالبحث والتقييم، في ظاهرة لافتة، تعكس، برأيي، حالة التصحّر الفكري الزاحف بين مثقفينا وأصحاب العقول والقدرات الفكرية، فباستثناء مقال أو اثنين نشرا على نطاقات محدودة، لم ولن نعرف رأي هذه النخب ومواقفها إزاء ما قام به من يرأس أهم جسم سياسي يمثل الجماهير العربية ومواقفها، ومصالحها، ولن نعرف بالتالي، من منهم يعتقد أن الزيارة خطوة ضرورية ولماذا، أو ربما، هي عكس ذلك؛ ولعل أشد ما لفت انتباهي هي طريقة متابعة جريدة "الاتحاد" الحيفاوية، وموقع الجبهة الديمقرطية، ليوميات هذه الزيارة، فعلى مساحة عشرة أيام لم نقرأ، على سبيل المثال، افتتاحية واحدة تشيد بتلك الزيارة وتعزز مضامينها وتساند ما المرجو إحرازه منها، ولم نقرأ، كذلك، إلا باقتضاب وبتقطير معطش، عن نشاط قام أيمن به هناك، مع العلم أن بعض، إن لم تكن جميع، لقاءاته، جديرة بالتغطية المسهبة، ناهيك عن ضرورة تعريف الرأي العام المحلي بما قاله في كثير من محاضراته ولقاءاته المتنوعة، وما قيل من مضيفيه في تلك المحافل المهمة والمنصات والمنابر، مثل ذاك الذي كان يقف عليه مارتن لوثر ويخطب ضد العنصرية والقمع والقهر ويصدح باسم الحرية والمساواة والحياة الكريمة.
أفضل القول ما كان سدادًا..
وهنالك خوف حقيقي من أن يصد هذا الصمت ذبذبات تلك الزيارة، ويحد من تفاعلها المرجو والمنتظر، فإخلاء ساحة النقد الجدي والمسؤول وتركها إلى ما ينتجه "التشاتيون" و"المغردون" على مواقع التواصل الاجتماعي، وحصر مستوى النقاش حول مسألة مفصلية وذات أبعاد سياسية رحبة، بتلك المواقف، التي تبقى بأكثريتها، وبعضها لافت ومهم، كفقاعات علكة تطير من أفواه مستجمين تلوك القدر على شواطئ الحلم، قد يفقد هذه الزيارة حواضنها الطبيعية الحيوية لضمان نجاحها ونجاعتها.
وأفضل العقل ما كان رشادًا..
والقائد الحق يُمتحن في مقدرته على فهم متغيّرات الزمان والمكان، وذلك في ضمانة ومسعى منه كي ينجح بتحريك عجلات التاريخ في الاتجاه الصحيح، والراشد هو الذي يشخّص تلك التحديات التي تواجه شعبه ويعرف، بحنكة وحكمة النطاسي الحاذق، أنها مفصلية ووجودية وأنها غير مسبوقة، حتى لو ما زالت الأغلبية العابثة بالسياسة، معه ومن حوله، تستعمل لتشخيصها الأدوات البدائية، وتلجأ إلى تعريفاتها المستعارة من قواميس حقب بائدة، ويتعاملون مع واقعهم، وكأن شيئًا لم يحدث، فيافا ما زالت عروسًا في أشهى مرمرها، تمامًا على حالتها عندما هجرها إخوتها العرب وتركوها عاريةً للذئاب العابرة، وكأن بيسان وصفد تفيقان،اليوم، على هدهدة حنجرة بن غوريون وهو يعلن عن قيام إسرائيل، دولة لليهود، ولا يصم آذان عرب مهزومين لم يسمعوا حز السكاكين وصيحات أم الرشراش وهي تندب حظ أخواتها الموؤدات والمبقورات، وما فتئوا يبيعوننا، منذ سبعة عقود، نحن أصحاب الأرض المنكوبين، الحلم بذاك الزند الأجرب الذي سترقد عليه بنت صهيون، ويعدوننا بأن تغدو تل ابيب، بدعمهم وصلاواتهم، تلة من رماد!
أخطر ما تواجهه الأقلية العربية في إسرائيل، منذ اكتوبر2000 على الأقل، هي محاولات قادة الدولة ونظام الحكم فيها، نزع شرعية وجود هذه الجماهير في دولة تصر على أن تتحول وتتصرف كدولة لليهود فقط، على ما يحمله هذا الإصرار من نتائج ومخاطر تحيق بوجودنا الفعلي كأقلية قومية تناضل من أجل حقوقها الجمعية الوطنية والمدنية. قادة إسرائيل اليوم يسخّرون كل طاقاتهم من أجل إنجاح هذه السياسة وتأطيرها بمنظومة قوانين عنصرية كارثية، وبالتوازي يعملون على إقناع دول في العالم، وفي مقدمتها أمريكا، صديقة إسرائيل وحليفتها الكبرى، على قبول تلك السياسة ونتائجها.
في الماضي واجهت الجماهير العربية سياسة التجهيل القومي والتمييز العنصري وابتكر قادتها ما يلائم كل حقبة من حقب هذه المسيرة الشاقة، التي لامس فيها صمود الباقين على أرضهم حد المعجزة؛ درس تلك القيادات الرصينة الوطنية غير المقامرة ولا المجازفة، أفادنا وعلّمنا أن القائد الحق، لن يقبل بتخليد ما كان قائمًا والتقوقع في أصدافه، وواجبه أن يحسن قراءة المعطيات الجديدة ويفسح لها جانبًا في مجمل تشكيل مواقعه الجديدة وبرامج نضاله المستقبلية، فالإبقاء على ما كان كمقدس يخدم أحيانًا عدوك، وكي تنال الجماهير حقوقها وحريتها، عليك كقائد أن تأتي بحلم خلّاق جديد، حتى لو كان مغايرًا عمّا قبل به السالفون واتبعه الأوّلون!
دعوة المؤسسات الأمريكية للنائب أيمن عودة في هذه الأيام، فيها ما كان يجب أن يسعد كل من يعرفه، وبالأخص الأصدقاء، وكانت يجب أن تُفِرح رفاق أيمن وهم قبلوه قائدًا لجبهتهم ومنتخبًا في عملية وعدت بنشر أريج براعم حقول من اللوز والياسمين المرتقب، وكانت يجب أن تستدعي حتى من يرون به ندًا سياسيًا أو غريمًا فكريًا أو منافسًا شعبيًا، للتعبير عن راحتهم، لأنها جاءت كرد واضح على السياسة الاسرائيلية الإقصائية ومحاولات قادتها الحثيثة دمغ أقلية قومية يمثلها أيمن، بالشياطين والإرهابيين غير الجديرين بالانتماء إلى العائلة الإنسانية أبناء الحضارة والحياة.
إنها بداية، قد تصير طريقًا وقد تدفن في مذودها، وهي شرارة قد تصير برقة أو حريقًا، فأمريكا لا تحب الضعفاء ولا من يستثمرون في بنوك الدمع بحسابات لن تجدي، أو يؤثرون الثغاء كتلك الأضاحي، وهي تنتظر يوم الذبح لتصير كرامات على موائد المحسنين، وأمريكا تحب من يجيد الدفع بالمهاميز ومن يركبون ظهر الفرس ويسابقون الريح، فهم من سلالات "أولاد البقر" جاءوا إلى قارة ودجنوها، والبقية نصوص في نقوش الحجر.
هي زيارة/ رسالة لمن يريد أن يعرف كيف قد يقهر حكيمٌ الأفعى، والشرط أن يسعى بهمة وحذر. فلا تبحثوا عن قصص الحب في السياسة، ولا عن دفق العواطف من ثناياها، ودموع الفقراء والمقهورين لن تتغلب على سواعد تبطش باسم المصالح منذ قتل قايين أخاه، وكان الرب شاهدًا وصامتًا، فالتاريخ سجل، دوّنته الدماء، لمشاريع شرعنة القهر والبطش والقوة، ولا تذهبوا بعيدًا وتحمّلوا أيمن وزر عجزكم والمحْل في بساتين العرب، فهو يذهب إلى المستحيل واعدًا وغضًا ولسوف يعود كما كان، فتى الكرمل، عاشق البحر وصديق النوارس والسحر، فلا تتركوه، يا رفاقه، كالسيف وحيدًا للملح والصدى.
أكمل مشوارك يا أيمن، ولا تكترث لمن استظل بفيء تينة ستبقى حمقاء، واستأمن رذاذ البحر قبل الغضب، فنحن قرأنا عن زيارتك هناك، وهو قليل قليل، ونعرف أنك في أمريكا تتحدث باسم أهل البلاد ومظلوميها وتتحدث باسم من لن يقبل القمع ولا المهانة ولا العنصرية، وتتحدث ضد إخراج الحركة الإسلامية، حتى وهم يعادونك ويحاولون تأثيمك في كل صباح ومساء، وتشرح مخاطر هذه الخطوة على جميع العرب في البلاد، وتنقل إلى من كان يجهل أو يؤثر الاستجهال ما يكفي من حقائق ووقائع ورؤى لمستقبل، إما أن يكون ورديًا لنا ولهم وإما لن يكون!
أكمل مشوارك، فهنا في البلاد أكثرية يحبونك ومعك ويعرفون أن الحقيقة حتى لو راحت عليها أسراب من الأفاعي ستبقى وضّاءةً ومجلجلة، و"أبقى من وحي على حجر!".
كاتب فلسطيني
جواد بولس