جيرمي كوربين… ينتصر لنا… فلنرد إليه الجميل

بقلم: علي الصالح

جيرمي كوربين سياسي خارج عن المألوف في المؤسسة الحاكمة في بريطانيا، ممثلة بالحزبين الرئيسيين المحافظين والعمال.
يقدم للناخب البريطاني نمطا جديدا ومختلفا وغير تقليدي للسياسيين على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومنذ فوزه غير المتوقع، في انتخابات زعامة حزب العمال في 12 سبتمبر الماضي، تغيرت اللعبة السياسية. وكما قال فإنه يسعى إلى تغيير الحياة السياسية في بريطانيا.
كوربين دخل حلبة التنافس على زعامة الحزب حصانا خاسرا. وفي الحقيقة أنه لم يحصل على عدد النواب اللازم لترشحه للزعامة (25 نائبا) إلا في اللحظة الأخيرة، وتحديدا قبل دقيقتين فقط من إغلاق باب الترشح، وبصوت النائبة مارغريت بكيت المعدودة على يمين وسط الحزب، وذلك لاعطاء الانتخابات نكهة، حسبما قالت لاحقا، وتوسيع قاعدة التنافس. وندمت بكيت حيث لا ينفع الندم، ولم تكن تعلم أن "الخيل الاصايل تجود في الآخر".. وكان جيرمي الحصان الأصيل الذي تجاوز كل منافسيه في حلبة السباق واحدا تلو الآخر، وكلهم ينتمون إلى يمين أو وسط يمين الحزب، أي من البليريين (نسبة إلى توني بلير) خاصة ليز كندال (فازت بثلاثة بالمئة من الأصوات فقط).
يرى فيه الناخب البريطاني العادي، انسانا غير ملوث أو مداهن أو منافق.. انسانا صادقا مع نفسه يقول ويفعل وفق قناعاته، وهذا طبعا غير معتاد أو متعارف عليه في السياسة بشكل عام، وفي السياسة البريطانية الرسمية بشكل خاص، التي لا يزال العرب وشعوب أخرى يدفعون ثمن غدرها وريائها على مدى مئات السنين.
تكرهه النخبة الحاكمة من المحافظين، ويمين حزبه والمحسوبون على توني بلير وأنصار إسرائيل في بريطانيا، بقدر ما يحبه الإنسان العادي الذي يبحث عن نمط ســـــياسي مختلف.. يبحث عن مصداقيـــــة في ما ينطق به سياسيوه، فوجدها في جيرمي كوربـــين، الذي يحترم إنسانية الإنسان وعقـــله.. وهنا مكمن قوته وخطورته على هذه النخبة المنفصمة عن الناس واحتياجاتهم ومتطلباتهم. فتجدهم مختلفين في كل شيء ولا يجمعهم سوى معارضتهم ورفضهم ل جيرمي كوربين وقناعاته وسياساته ومواقفه.
كوربين يريد أن يعود بحزب العمال، الذي أصبح لا يرتبط بالحركة العمالية بشيء سوى الاسم فقط، إلى حاضنته الطبيعية الطبقة العاملة والنقابات، بعد أن اقتلعه منها توني بلير زعيم الحزب الأسبق سيئ السيط والسمعة، وأتى على علاقة الحزب بالنقابات العمالية التي كان يعتمد عليها أو هكذا يفترض، في الدعم المالي وطبعا الانتخابي، واستبدلها بممولين أثرياء، الذين انسحب حوالي 20٪ منهم من قوائم الممولين، ومنهم الثري المصري عاصم علام صاحب نادي "هال سيتي" في شمال بريطانيا. المبرر طبعا هو أن الحزب تحت زعامة كوربين أصبح غير قابل للانتخاب رغم أنه الاكثر شعبية. لدى كوربين كل ما يفتقر إليه سلفه توني بلير، الذي جر بريطانيا إلى الحرب العراقية الظالمة بوثائق مزورة، بدءا من الاخلاق إلى المبادئ والمعتقدات والمصداقية والتعفف والترفع.. وهذا يعكس توق قواعد الحزب إلى التغيير واعادته إلى جذوره العمالية الحقيقية التي حاول بلير اقتلاعها.
جريمي كوربين نائب عمالي مخضرم يبلغ من العمر 66 عاما، سياسي هادئ جدا وطيب جدا، تزيده ذقنه المشذبة وصوته الخفيض طيبة ووقارا.. بيد أنه عنيد وصلب عندما يتعلق الأمر بمعتقداته ومواقفه وقناعاته السياسية والأخلاقية.. وهو كما يصف نفسه اشتراكي ديمقراطي.. يرفض المساومة كما يرفض انصاف الحلول. ديمقراطي إلى أبعد الحدود، وأثبت ذلك بالسماح لأعضاء الحزب بالتصويت الحر حول قرار مشاركة بريطانيا في الحرب العدوانية على الشعب السوري، قبل حوالي عشرة أيام والتزم هو شخصيا بالتصويت ضد القرار، رغم أن بعض أعضاء حكومة الظل التي يقودها صوتت لصالح القرار.
فاز بمقعده في مجلس العموم عام 1983 عن منطقة ازليغتون في وسط شرق لندن. ومنذئذ لم يغير معتقداته وقناعاته، بل سعى إلى تطويرها، وظل يعمل بها وعلى أساسها. وظل في المقاعد الخلفية في البرلمان إلى أن انتخب زعيما للحزب بأغلبية شعبية لم يسبق لها مثيل لا في حزب العمال ولا في حزب المحافظـــين، ولا أي من الاحزاب الأخرى. إذ فاز باكثر من ربع مليون صوت، حوالي ٪60، أي اكثر بمرة ونصف المرة من مجمل الاصوات التي حصل عليها مجمل منافسيه الثلاثة، ومنهم من قيادات الصف الأول في الحزب، وتبوأ مناصب في الحكومات العمالية السابقة وفي حكومة الظل بقيادة زعيم الحزب السابق إيد ميلباند، الذي اضطر للاستقالة بعد الهزيمة النكراء التي مني بها الحزب في انتخابات مايو الماضي. ومنذ أن انتخب نائبا عن الحزب عام 1983 وحتى قبل ذلك نشط في مجال المساواة الاجتماعية ومحاربة الفقر والظلم، بريطانياً ودولياً.. يدعو لإعادة تأميم الخدمات العامة وشركات سكك الحديد، والغاء رسوم الجامعات التي فرضها توني بلير عام 1998 وارتفعت لتصل إلى اكثر من تسعة آلاف جنيه في السنة.
مقاتل عنيد ضد التسلح النووي، وكان أحد مؤسسي حركة نزع السلاح النووي الاحادي الجانب، ولم يتغير موقفه هذا حتى بعد انتخابه زعيما لحزب العمال، رغم إدراكه بان موقفه الرافض للسلاح النووي يمكن أن يكلفه جزءا من جمهوره، وربما الانتخابات المقبلة أو حتى قيادة الحزب، إذا ما تكالبت عليه قوى اليمين داخل الحزب. وعندما سئل في مقابلة مع تلفزيون "بي بي سي"، ما إذا كان سيعطي الأمر باستخدام السلاح النووي لو اقتضى الامر، قال بهدوئه المعتاد، أنه لن يضغط على الزر النووي وكرر الموقف نفسه مرارا. واتخذ الموقف الرافض نفسه عندما سئل إن كان سيأمر رجال الشرطة بإطلاق النار بهدف القتل ضد إرهابيين في شوارع لندن. وهو يناضل ضد ما يسمى بالاسلاموفوبيا ومحاولة شيطنة المسلمين
جيرمي كوربين معروف بمواقفه المناهضة للحرب.. فكان من مؤسسي التحالف ضد الحرب قبل العدوان الامريكي البريطاني على العراق عام 2003 بقيادة الرئيس الامريكي جورج بوش الابن وتوني بلير، وقاد اكبر مظاهرة ضد الحرب في لندن شارك فيها حوالي ثلاثة ملايين شخص.
وفي اول مواجهة حقيقية له كزعيم للعمال داخل مجلس العموم حول السياسة الخارجية، خصوصا انضمام بريطانيا إلى مجموعة الدول.. الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وحتى المانيا.. التي تشن غارات جوية على قواعد ومواقع ومراكز القيادة المفترضة لتنظيم الدولة في سوريا، لم تهزه الاصوات الحزبية الداخلية المعارضة لموقفه ووقف في الجلسة الخاصة لمناقشة الامر، ليؤكد موقفه الرافض لدخول العدوان الجوي على سوريا.
فلسطينيا، كوربين مؤيد نشيط وداعم للحقوق الفلسطينية منذ انتخابه لأول مرة عضوا في مجلس العموم. وقام باكثر من تسع زيارات تضامنية للاراضي الفلسطيني.. كما زار مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا. وهو يؤيد حق العودة للاجئين الفلسطينيين، سواء ارادوا العودة أم لا.. فهذا الحق يجب كما يقول أن يظل قائما لأنه المفتاح للقضية الفلسطينية، وهو احد امناء لجنة التضامن مع الشعب الفلسطيني، وقاد اكبر مظاهرة في بريطانيا ضد الحرب الاسرائيلية على قطاع غزة في صيف عام 2014 . يدعو للاعتراف المباشر والفوري بدولة فلسطين. ولعب دورا محوريا في تصويت مجلس العموم البريطاني في 13 أكتوبر 2014 على قرار غير ملزم يدعو إلى اعتراف الحكومة بدولة فلسطين، وفاز القرار باغلبية ساحقة.
يعتبر بناء المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين غير شرعي. وبناء على هذا الموقف لا يكتفي بوسم منتجات المستوطنات، كما جاء في القرار الاوروبي، بل يدعو إلى وقف التعامل معها وبيع منتجاتها في بريطانيا، كما يدعو الحكومة إلى وقف تصدير السلاح من أي نوع إلى اسرائيل حتى تلتزم بالقانون الدولي.
يعتبره يهود بريطانيا أو بالاحرى الصهاينة منهم خطرا عليهـــــم وعدوا لاسرائيل ومعــــاديا للسامية.. تلك الاسطوانة المشروخة إياها التي يلجأون اليها عندما يفقدون الحيلة والوسيلة.
لهذه الاسباب مجتمعة يتعرض كوربين لحملة تشويه واغتيال شخصية محمومة، وحرب شعواء أطرافها المحافظون واليمين في حزب العمال وانصار اسرائيل في بريطانيا، تدعمها وسائل الاعلام اليمينية وحتى الليبرالية، منذ اللحظة التي بدأ فيها نجمه يصعد في مواجهة منافسيه على زعامة الحزب، واستمرت بعد فوزه.
وللاسباب نفسها يتوجب علينا نحن العرب في بريطانيا (حوالي نصف مليون نسمة) أن نرد الجميل لمن ينتصر إلى قضايانا… ونرد الحسنة بعشرة امثالها.. ورد الجمــــــيل يكون بإحدى الطرق الثلاث.. الانضمام إلى عضــوية حزب العمل، أو التبرع له بالمال، مهما كان زهيدا، وأخيرا وليس آخرا بالتصويت للحزب لا سيما في الانتخابات البلدية في مايو المقبل أو في انتخابات عمدة لندن.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح