فضائح قانونية خطيرة: على هامش إبطال المحكمة العليا لمرسوم رئاسي!!!

بقلم: أيوب عثمان

ليس أسوأ من أن يُمتهن القانون ويُذل، ليصبح مسوداً لا سيداً، محكوماً لا حاكماً، طائعاً لا مطاعاً، مُقَعَّداً لا مُقَعِّداً، فالقانون الذي يجب أن يُقَعّد به ولا يُقعَّد ها نحن نراه اليوم يُسيَّر وفق الهوى، فبات له أداة. بئس القانون الذي يُحكَم ولا يَحكُم، يُسيَّر ولا يُسيِّر، يقاد ولا يقود، يُقعَّد به ولا يقعَّد.

الرئيس محمود عباس، رئيس دولة فلسطين، رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كان قد أصدر في 1/6/2014، أي قبل أكثر من عام ونصف مرسومه الرئاسي الذي قضى بتعيين السيد/ علي جميل مصطفى مهنا، رئيساً للمحكمة العليا، رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، حيث بلغ امتهان القانون هنا مبلغه! إذاً، وما دام ذلك كذلك، فلا ضير – كما سنرى فيما يأتي – على من يمتهن القانون، لا سيما بعد أن جعل سيادة الرئيس من نفسه مثالاً يحتذى في امتهان القانون وإدارة الظهر حتى للواضح وللمباشر في نصوصه وأحكامه. وعليه، فلا بأس – بعد فعلة الرئيس هذه – أن يتسابق المتسابقون في امتهان القانون وإهانته ولي عنقه حيناً وإدارة الظهر لأحكامه ونصوصه حيناً أخر.

فوسط غير قليل من التهليل والتهاني والتبريك ومثله – بل وربما أكثر - من التطبيل والاحتفاء والتزمير، قعد السيد/ علي مهنا على كرسي (ولم يعلم وقت قعوده أن قعوده لم يكن قعوداً مهنياً مؤيداً بالقانون ومحمياً بنصوصه، بل كان قعوده على خازوق!) رئاسة المحكمة العليا ومجلس القضاء الأعلى، ثم جاءت المفاجأة بعد عام ونصف من قعوده على (خازوق!) الرئاسة: كانت المفاجأة الطامة ذات بعد متعدد، فاتصل بعده الأول بمن أصدر مرسوم التعيين، وهو سيادة الرئيس الذي غَيَّب مستشاره القانوني إن لم يكن مستشاره القانوني هو الذي غَيًّب نقسه، فأغلق عقله وضميره القانوني كي يمكن سيادة الرئيس من تحقيق المبتغى الذي كان يريد. أما بعده الثاني، فقد اتصل بمن تقدم لدى المحكمة الدستورية بالطعن في المرسوم الطعين، بعد خمسة عشر شهراً من صدور المرسوم الرئاسي، فيما اتصل بعده الثالث بالمحكمة العليا التي فتح الله قريحتها، بعد أكثر من عام ونصف، فأبانت عن مكنتها القانونية وهيبتها وعلو مكانتها، وعن حزمها وعزمها لرفع الغشاوة عن عينيها لتقضي ببطلان مرسوم رئاسي كان في الأصل وقت صدوره ملفعاً بالبطلان، على الرغم من استمرار مفاعليه الباطلة لمدة عام ونصف العام!!!

السؤال هنا: إذا كان سيادة الرئيس - الذي هو رئيس كل شي في بلادي ورئيس كل أبناء بلادي أينما ارتحلوا وحلوا – يصدر قرارته ومراسيمه هكذا دون اعتبار للقانون، ودون التزام بأحكامه، وإذا كان سيادة الرئيس يَغَيِّب مستشاريه هكذا، وإذا كان مستشاروه يُغيِّبون أنفسهم هكذا، وإذا كان سيادة الرئيس سعيداً - كما يبدو – أن يُغَيِّب مستشاروه أنفسهم، فأي مصير ينتظر هذا الشعب؟! وأي مصير ينتظر رئيساً إذا ما غضب الشعب غضبته؟!

أما ذلك الطاعن في المرسوم الرئاسي (المحامي نائل الحوح) فيبدو أنه رجل قانون مدهش، فيما حيثيات طعنه هي الأكثر إدهاشاً، لا سيما وإنه استفاق علي حيثيات الطعن بعد أكثر من خمسة عشر شهراً كانت - خلالها - مالطة قد ذهبت إلى خرابها! ألا يعيب هذا الطاعن أنه تقدم بطعنه منذ ثلاثة أشهر فقط، وتحديداً في بداية سبتمبر 2015، فيما المرسوم الطعين كان قد صدر قبل ذلك بخمسة عشر شهراً، وتحديداً في الأول من حزيران 2014؟! ما الذي كان ينتظره الطاعن طالما كان المرسوم الرئاسي - من وجهة نظره القانونية - باطلاً من أساسه؟! انظروا الجواب الذي أتى على لسانه حيث قال إن تقدمه إلى المحكمة بطعنه "جاء نتيجة إشكاليات واجهت القضاء منذ تولي مهنا لمنصبه ومنها رفع رسوم التقاضي التي وصلت من 150% إلى 3000% في بعض الحالات". ما يزيد الطين بلة، أو ما يزيد سوء الطاعن سوءاً أكثر، أنه قال:" بصراحة تأملت خيراً حينما تم تعيين مهنا رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، لكن عقب ذلك، وبعد تعليمات أدت إلى تدخلات في عمل القضاء دفعني هذا الأمر إلى التقدم إلى محكمة العدل العليا للطعن في القرار". تأملوا صراحة / سطحية قوله "إنه تأمل خيراً حينما تم تعيين مهنا......إلخ!!!" إذاً، فلم يكن احترام القانون والالتزام بأحكامه ضالة هذا الطاعن، وإنما كان ينتظر شيئاً لا علاقة له بالقانون واحترامه، ولما لم يكن له ما انتظره أو توقعه، فقد تقدم بالطعن في شأنه. وعليه، فإن هذا الطاعن لم تكن هجرته لله ورسوله، وإنما كانت لدنيا يصيبها، ولما لم يصبها طوال خمسة عشر شهراً، عاد يتمسح بالقانون، محاولاً إقناعنا أن القانون هو ضالته!.

كان الأصل أن يطعن الطاعن في المرسوم الرئاسي في حينه، ذلك أن المرسوم الرئاسي لم يكن - وقت صدوره - صائباً ثم استحال باطلاً، على نحو مفاجئ وفي غمضة عين، بعد أن استمر بطلانه واستمرت مفاعيل بطلانه لمدة زادت عن خمسة عشر شهرا. فالمرسوم الرئاسي كان باطلاً لحظة صدوره، ما أوجب على الطاعن أن يتقدم بطعنه عليه في حينه: فلو كان ذلك كذلك لسلمنا أن الطاعن كان القانون هو ضالته، فطعن حرصاً وغيرة وانتماء، ولسلمنا أيضاً أن الطعن ما كان – البتة - لدنيا أراد الطاعن أن يصيبها. أما وقد انتظر الطاعن كل هذا الوقت ليأتي بطعنه بعد خمسة عشر شهراً، فإن طعنه هذا ليس إلا كلمة حق يراد بها باطل.

لقد فقأ هذا الطاعن عينيه بيديه حينما اعترف أنه تقدم إلى المحكمة بطعنه "نتيجة إشكاليات واجهت القضاء منذ تولي مهنا لمنصبه ومنها رفع رسوم التقاضي....إلخ". فلو كان الأمر عند هذا الطاعن التزاماً بالقانون واحتراماً له وغيرة عليه، لكان قد تقدم بالطعن في حينه، مؤسساً طعنه ليس على قانون السلطة القضائية رقم (1) لسنة (2002) الذي تم إالغاؤه، وإنما على ما جاء في قانون السلطة القضائية رقم (15) لسنة (2005) ساري المفعول في البند(1) من مادته (18) الذي يقضي بأن "يعين رؤساء المحاكم بقرار من رئيس السلطة الوطنية، بناء على تنسيب من مجلس القضاءالأعلى بأغلبية ثلثي أعضائه"، وهو ما لم يكن متحققاً عندما أصدر الرئيس مرسومه، وفي الفقرة (ج) من البند (2) من مادته (18) التي يقضي بأنه "يشترط في من يعين رئيساً للمحكمة العليا أو النائب الأول له أن يكون قد جلس للقضاء في دوائر المحكمة العليا مدة لا تقل عن ثلاث سنوات، أو مارس مهنة المحاماة مدة لا تقل عن عشرين سنة متتالية"، وهو ما لم يكن كله متحققاً ساعة أن أصدر الرئيس مرسومه الطعين.

أما البعد الثالث للمفاجأة، وهو إبطال المحكمة العليا المرسوم الرئاسي، فيتصل بسؤالنا لهذه المحكمة ولقضائها وأيضاً لقضاتها أصحاب القامات العاليات، بل الأعلى: أين كنت يا محكمة يا عليا؟!، وأين كان قضاؤك العالي، بل الأعلى؟!، وأين قضاتك الأعلون، حينما أصدر الرئيس مرسومه الرئاسي المعيب من

أساسه الباطل من أساسه؟! أليست هيئة محكمة العدل العليا هي التي فرضت على القرار الإداري رقابتها؟! إذا كان ذلك كذلك، فأين الرقابة التي فرضتها هذه المحكمة على قرار الرئيس القاضي باطلاً بتعيين علي مهنا رئيساً للمحكمة العليا ورئيساً لمجلس القضاء الأعلى؟َ! أين تلك المحكمة؟َ! وأين قضاتها؟َ! وأين قضاؤها الذي قرض على القرار الإداري رقابته؟!

أما المفجع حقاً، فهو البعد الرابع لمفاجأة إبطال المرسوم الرئاسي! :"إنه ذلك الاجتماع الثماني الذي هرول المشاركون فيه إلى الإعلان عن ضرورة احترام القرار الصادر عن محكمة العدل العليا بإلغاء قرار تعيين رئيس مجلس القضاء الأعلى، معتبراً إياه قراراً قضائياً نهائياً وصفه الإعلان الثماني بأنه أصبح للحقيقة عنواناً". وعليه، فإننا نتساءل: أين كانت هذه المؤسسات الحقوقية الثمانية وقت أن أصدر الرئيس مرسومه الطعين؟! لماذا لم تنبر تلك المؤسسات الثمانية ولماذا لم ينبر رؤساؤها أو مدراؤها – وقت إصدار المرسوم الرئاسي المشوب بالبطلان الصارخ – دفاعاً عن القانون وعن هيبته وعن هيبة القضاء، مثلما انبروا – كما رأيناهم – وهم يمتدحون لقرار الإبطال ويمجدونه ويعظمونه؟! ما الذي كان يشغلهم غير العدالة وشؤونها والعمل على تعزيز الدروب التي تحققها وتؤدي إلى بلوغها؟! وهل كانوا يعلمون ما هم اليوم يعلمون؟!

غير أن الأكثر فجيعة وإفجاعاً هو ذلك المستشار القانوني للرئيس (حسن العوري) إذ يقول:" إن قرار إلغاء تعيين علي مهنا كرئيس لمجلس القضاء الأعلى هو قرار قضائي فلسطيني على الجميع أن يحترمه". السؤال هنا:" أين كنت أيها المستشار الرئاسي حين أصدر الرئيس مرسومه الرئاسي المعيب؟! ومن يتحمل يا سيادة المستشار تبعات مفاعيل البطلان التي استمرت في قضائنا وفي حياتنا لمدة عام ونصف ويزيد؟! أما السيد ماجد العاروري مدير الهيئة الأهلية لاستقلال القضاء وسيادة القانون الذي قال:" إن هذا القرار هو من أهم القرارات التي صدرت في تاريخ السلطة الوطنية..... إلخ"، فإننا نسأله:" أين كنت وقت أن أصدر الرئيس مرسومه الذي تعلم أنت بعيبه وبطلانه قبل غيرك، بحكم مسؤوليتك عن إدارة هيئة عنوانها استقلال القضاء وسيادة القانون؟!، لمَ لَم تنبر دفاعاً عن سيادة القانون واستقلال القضاء وعن مبدأ الفصل بين السلطات، وقت صدور المرسوم، مثلما رأيناك الأسبوع الماضي وأنت تكيل لقرار بطلان تعيين علي مهنا المدح والتعظيم والتبجيل كيلا؟! " وبعد، فهل ثمة علاقة بين المرسوم الرئاسي - القاضي قبل عام ونصف – بتعيين المحامي علي مهنا رئيساً للمحكمة العليا، رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، بعد أن استقال من حركة فتح ومن مجلسها الثوري ومن محكمتها الحركية التي أدانت دحلان، وبين تحريك الطاعن لطعنه على المرسوم الرئاسي، لا سيما بعد أن آتى ذلك المرسوم أكله، على الرغم من بطلانه؟!

أما آخر الكلام، فإذا كان سيادة الرئيس - الذي هو رئيس كل شي في بلادي ورئيس كل أبناء بلادي أينما ارتحلوا وحلوا – يصدر قرارته ومراسيمه هكذا، دون اعتبار للقانون، ودون التزام بأحكامه ونصوصه، وإذا كان سيادة الرئيس يَغَيِّب مستشاريه هكذا، وإذا كان مستشاروه يُغيِّبون أنفسهم هكذا، وإذا كان سيادة الرئيس سعيداً - كما يبدو – أن يُغَيِّب مستشاروه أنفسهم، فأي مصير ينتظر هذا الشعب؟! وأي مصير ينتظر رئيساً إذا ما غضب الشعب غضبته؟!

بقلم الدكتور/ أيوب عثمان

كاتب وأكاديمي فلسطيني

جامعة الأزهر بغزة - فلسطين