تعد الانتفاضة الشعبية التي انطلقت بشكل عفوي وتلقائي وشعبوي في الأول من أكتوبر هي حالة من حالات النضال الوطني الفلسطيني، ومرحلة من مراحل تراكم وتكامل تجاربه الوطنية في مشروعه التحرري. ولذلك يجب أن تتجذر هذه الانتفاضة في الخطاب السياسي والإعلامي والنضالي الفلسطيني، ويتم اعتماد مصطلح الانتفاضة بدل استخدام مفردات أخرى مثل هبة وتحرك. فإن تحديد المصطلح وتوسيع تداوله في الخطاب الرسمي والشعبي الفلسطيني يعد حالة هامة من حالة تثبيت المقاومة في الوعي والفكر الفلسطيني بجميع مستوياته وفئاته. ومن هنا فإن هذه الانتفاضة هي فرصة تاريخية للفصائل الفلسطينية وعلى رأسها حركة فتح لإعادة لحمتها من المشروع الوطني والشعب الفلسطيني بعد متاهة الانقسام والعملية السلمية وتعثرها. واعتقد أن حركة فتح هي الفصيل الأكثر حاجة لهذه الانتفاضة من أجل استنهاض حركة فتح من خلال استنهاض خطابها المقاوم. فمن الواضح أن حركة فتح هي من قادت مشروع العملية السلمية في مدريد ومن ثم أوسلو. هي من كانت رافعة هذا المشروع في منظمة التحرير الفلسطينية منذ إعلان الاستقلال في الجزائر في 15/11/1988م. وكان لهذه المرحلة ما لها وما عليها. بمعنى ان فتح كانت صادقة في نواياها في العملية السياسية والسلمية، وأطلق عليه الرئيس أبو عمار آنذاك " سلام الشجعان"، ولكن الطرف الأخر لم يكن صادقا في نواياه. ولم يكن قد تجذر في وعيه السلام والإقرار بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. فكان العقل السياسي الإسرائيلي يعتمد على المكر والدهاء في التعاطي مع العملية السلمية، ومتخذها مناورة لفرض شروط التسوية على الجانب الفلسطيني الذي وجد نفسه في شباك راعي أمريكي غير نزيه ومنحاز تماما للجانب الإسرائيلي، ووضع ضعيف غير مؤثر من قبل الاتحاد السوفييتي. ولذلك كان هناك التعثر المستمر، وكان هناك الاستغلال الإسرائيلي للمرحلة الانتقالية لتثبيت واقع جديد من الاستيطان والتهويد لمنع أي أمل في الاستقلال والسيادة للشعب الفلسطيني وحقه في إقامة دولته المستقلة. وكانت السياسة الإسرائيلية تقوم على فرض الرؤية الإسرائيلية بإقامة حكم ذاتي دائم للشعب الفلسطيني، وسلطة ضعيفة على السكان وليس الأرض. ونحن هنا لسنا بصدد تقييم نقدي شامل لتلك المرحلة فإن لها ما لها وعليها ما عليها. ولكن كان من نتائج تلك المرحلة أن حركة فتح كحركة رائدة وتشكل العمود الفقري للمشروع التحرري الوطني قد ألقت بثقلها في المشروع السياسي السلمي، وتراجعت عن خطابها المقاوم قولا وفعلا. وباتت تنتظر نتائج هذه العملية السلمية. وكانت الإشكالية الأخرى أن حركة فتح قد مزجت نفسها في السلطة الفلسطينية وذابت بها قيادة وخطاب وسياسة. ومن هنا اندفعت فتح قيادة وكوادر باتجاه الاستحقاق الوطني في الوظائف وغيرها مما أبعدها رويدا رويدا عن العمل النضالي المقاوم. وكان هناك التنافس على المناصب في المجلس التشريعي والوزارات ... الخ. وهذا بالطبع أضعف بنية الوعي المقاوم داخل الحركة ودفعها ذلك إلى تبنى العمل السلمي والمقاومة الشعبية في مؤتمرها السادس.
والحقيقة أن الرئيس أبا عمار قد أدرك بعد مؤتمر كامب ديفيد سنة 2000 بضرورة الجمع بين العمل السياسي والعمل المقاوم للوصول للأهداف الوطنية بعد تلكؤ الجانب الإسرائيلي في إحقاق حقوق الشعب الفلسطيني في مفاوضات الحل النهائي. وهذه ما دفع الجانبين الإسرائيلي والأمريكي لمحاصرته سياسياً ثم تصفيته جسدياً. وكان يمكن لحركة فتح أن تعيد استنهاض نفسها من جديد في انتفاضة الأقصى سنة 2000م، والجمع فكرا ووعيا بين العمل السياسي والعمل المقاوم، وأن تنسحب تدريجياً من الذوبان في السلطة، وتستعيد بنيتها التنظيمية النضالية، وخطابها النضالي المقاوم. ولكن كان هناك صعوبة في عملية الفصل بين فتح النضال والمشروع الوطني وفتح الاستحقاق الوطني المندمج في السلطة الوطنية.
وجاء الانقسام ليعرقل أي تقدم في هذا المجال
إن الانتفاضة الفلسطينية الحالية تشكل فرصة تاريخية لحركة فتح لإكمال انسلاخها عن السلطة القائمة، والعودة لبلورة خطاب سياسي مقاوم، تلتحم من خلاله بالجماهير على أساس معركة المشروع الوطني الفلسطيني. ويصبح لفتح خطاب سياسي وإعلامي مختلف عن خطاب السلطة المكبلة بقيود الاتفاقيات والالتزامات. وقد كان خطاب الرئيس أبو مازن بأن الانتفاضة مبررة بسبب اليأس لدى الشباب خطوة في الاتجاه السليم في إعطاء الضوء الأخضر للانتفاضة، وتشكيل غطاء رسمي لها. ولكن الرئيس بحكم موقعه رئيسا للسلطة مقيدا في خطابه السياسي والإعلامي. ومن هنا فإن حركة فتح بقياداتها التاريخية هي من يجب أن تكمل مشوار تجذير الخطاب المقاوم في الخطاب السياسي والإعلامي للحركة. وأن يشكل ذلك فرصة لاستعادة الثقة بها كحركة مقاومة. وتوازن بين مشروعها السياسي المتعثر في المفاوضات السلمية وبين مسؤوليتها وثقلها الشعبي الجماهيري.
إن حركة فتح وكما كانت رائدة لمشروع سياسي تفاوضي متعثر عليها ان توازن خطابها وحضورها بين العمل السياسي والعمل المقاوم والجمع بينهما. فقد شكلت المرحلة السابقة فترة فصل في الخطاب فبرزت هناك فصائل تتبني الخطاب المقاوم دون أي سقف سياسي، وبرزت حركة فتح كحركة عمل سياسي دون عمل مقاوم حقيقي. وحتى أنها أي حركة فتح لم تطبق ما تم تبنيه في المؤتمر السادس من اعتماد المقاومة الشعبية. وأصبح ممارستها موسمية وضمن مؤسسات شعبية ولم تكن واضحة في الخطاب السياسي المقاوم. ومن زاودت الفصائل الوطنية والإسلامية على حركة فتح، واتهمتها بالتنصل من المقاومة والاكتفاء بعملية سياسية تفاوضية متعثرة.
إن انتفاضة القدس الحالية هي فرصة حركة فتح للجميع بين العمل السياسي والعمل المقاوم. واستنهاض خطابها المقاوم من جديد كرائدة المشروع الوطني، وصاحبة الرصاصة الأولى، والحركة الأكثر جماهيرية وشعبية. وفرصة لإعادة لحمة القيادة مع جماهيريها، وكذلك فرصة تاريخية لتطبيق قرارات مؤتمراتها الوطنية قولا وفعلا. وفي الوقت نفسه فرصة لتقوية موقفها وإسناد ظهرها تجاه العنجهية الإسرائيلية، وألاعيب رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو. فهل تستثمر فتح هذه الفرصة أم تضيع مثلما ضاعت الفرصة في انتفاضة الأقصى
غزة
بقلم أ.د. خالد محمد صافي