1- المعتقل
رمَوْه على أرض الزنزانة، كان الدم ينزّ من أنفه وفمه، وقد أُغمي عليه من شدّة الضرب على رأسه وكل أنحاء جسده؟ حتى لم يستطع أن يتكئ على ساعده لينهض، ويتخلّص من رائحة البطانيات العفنة ولزوجةِ البول التي تشرّبَتْها، في عتمةٍ ثقيلةٍ لم يتبيّن فيها مواضع الجروح والكدمات والكسور.
كان حلقه جافاً، لم يستطع أن يبصق الدم المتجمّد في خشب فمه، وأنفه مرضوض، يكاد الهواء لا ينسرب إليه بفعل الدم المتجلّط فيه.
تخثّر الدم، وانتفخ وجهه، وازْرَقّ ظهره، وتحطمت أضلاعه، ولم يقوَ على تحريك ذراعيه.
كأنه بين النوم والصحو، والألم يستبدّ بالرأس الثقيل الدائخ الزائغ.
وفجأة، تراءت له القامات، ولم يتبيّن الوجوه! كان النبيّ والوليّ والشهيد والذبيح .. بملابسهم الطويلة المُسدلة يقفون عند رأسه، وما إن أيقنوا أنه شقّ رمشيْه ليراهم، حتى اختفوا!
التبس عليه الأمر، هل يتخيّل؟ أم أنَّ ملمس أذيال ثيابهم التي غطت وجهه كان حُلماً؟
2 – أمام السجّان
خرج المحقق، لا يلوي على شيءٍ، مصدوماً مذهولاً مما رأى! فتبعه جنود الحراسة المتحلّقون حول غرفة التحقيق، ليتبيّنوا الذي جرى! فما وجدوا شيئاً غيرَ متوقّعٍ أو جديداً!
تذرّع المحققُ أمام الجنود بغير أمر، فعادوا إلى مواقعهم، ورجع إلى غرفته!
نظر إلى السجين، فوجده على حاله، مقيّداً وجالساً على مقعد السؤال، لا دم في ذراعه أو على فمه!
ومرّة أخرى، خرج المحقق أكثر هدوءاً إلى الساحة، كأنه دار حوله نفسه مضطرباً، ثم عاد إلى غرفته، فوجد السجين كما تركه!
حاول المحقق أن يسأل السجين دون أن ينظر إليه، ولكن دون جدوى.
طلب من الجنود أن يذهبوا بالسجين إلى الزنزانة، ثم أمرهم أن يحضروه، ثم أعاده، ثم أحضره، ثم أعاده، وأحضره… حتى انغلق الأمر على السجين والجنود!!
في اليوم التالي، أمر المحقق بأن يظلّ الكيس على رأس السجين، والقيود خلف ظهره وفي رجليه، وحاول أن يسأله، فعجز عن الكلام! وقف المحقق، وسحب أقسام المسدس، ضغط بإصبعه على الزناد، فاخترقت ستُ رصاصات جسدَ السجين! هرع الجنود إلى الغرفة، فوجدوا المحقق يجثم على الأرض غارقاً بدمه، والسجين على حاله، ينتفض الكيس على رأسه، والسلاسل تخشخش خلف ظهره وبين رجليه!
3 -لبلابة الزنزانة
أَطَلَّتْ برأسِها الأخضر الطريّ، فاستبشرنا خيراً. ثمةَ لبلابةٌ تعربشت، وها هي تلقي برأسها على نافذتنا! وكبرت اللبلابةُ، ونفذت من بين مربعات الشَّبَك الحديدي، فابتهجنا وتفاءلنا!
وامتدت بعروقها، وراحت تفرد غصونها على السقف حتى صارت شبكةً خضراء، تتدلى فوقنا سماءً تشبّثت كالظلال العميقة على كلِّ تلك المساحة التي تغطّينا.
وهبطت بأصابعها الرفيعة إلى الجدران كالأواني المستطرقة، تنزل شيئاً فشيئاً، حتى لم يعد لونٌ سوى لونها.
وأصبحت زنزانتنا مبطّنةً بتلك اللبلابة المندفعة بنسغها وعروفها الدقيقة إلى أن لامست الأرض من كل الجهات.
وازدادت اللبلابة متانةً وقوّة، وراحت تحتلّ فضاءنا وتكبر. وكنّا في نومنا نلمس تلك العروق التي تلامس وجوهنا وظهورنا وأرجلنا وأذرعنا، فنزيحها بلطف، فتتمسك بنا، وانتبهنا أن لتلك العروق رؤوساً تخترق الجلد، وتروح تمتصّ دمنا!
لم نصدّق الأمر بدايةً، حتى أدركنا أن هذه الأغصان الليّنة الرفيعة هي أقرب إلى المخلوقات الزاحفة التي تخترق لحمنا، وتشرب منه، دون أن نتألم أو نتأذّى، إلى أن زاد هزالنا وضعفنا، وازدادت قوّتها ونضرتها.
بعد شهور أو سنوات، كانت اللبلابة تعبئ الزنزانة، وثمة هياكل هشّة نَخِرَة، تتحَلّل، وتذوب.
4 -مدير السجن
وقف مدير السّجن ببزّتهِ اللاّمعة، مُحاطاً بِمساعديه الذين يظهرون انضباطهم بوقفتهم العسكرية ونظرتهم الشاخصة الحاسمة.
كان المعتقلون يقفون في الساحة، يستمعون إلى ما يقوله الضابط المغرور، الذي اصطفّ خلفه وحوله عشرات الجنود المدججين والكلاب اللاّهثة، محذّراً ومتوعّداً المعتقلين، حاملاً عصا الجنرال بيدهِ اليُمنى التي يحركها ويُشيرُ بها، ويضربُ على يده اليسرى المفرودة، كأنه يعزف إيقاعاً يتواءَمُ مع لهجته وصرامة قوله. وأنهى حديثه قائلاً: أيُّها السُجناء، أريد أن أُعرّفكم على الضابط فرانتس كافكا مدير التحقيقات، وعلى الضابط ألدوس هكسلي مدير الإدارة في السجن، وعلى الضابط جوزيه ساراماغو مدير العنابر والأقسام، وهؤلاء الضباط هم الذين ينوبون عني، وهم الذين سيَقودون هذا السّجن، فما عليكم سوى التعاون معهم والاستجابة لأوامرهم. ثم أردف قائلاً: وقبل أن أُنهي كلامي، أسأل: هل من استفسارٍ لدى أحدكم؟
رفع ممثل المعتقلين يده، وعلى وجهه ابتسامة ساخرة، وقال: يا كابتن، إننا نعرف عالم هكسلي الجديد، وعمى ساراماغو المخيف، كما نعرف مَسْخ كافكا وكوابيسهِ ومحكمتهِ وقلعتهِ مثلما نعرفُ حقدهُ علينا.
تلعثم مدير السّجن، واختنق ببعض الكلمات المبهمة التي حاول أن ينهي الموقف بها، وأدار ظهرهُ، فلحق به الضُبّاط الذين سمعوه يقول وهو يضرب بعصاه على ساقهِ بعصبية وانفعال: إن مهمتنا ستكون شاقّة مع هؤلاء، أولاد هاجر المجرمين.
حلم الشهيد.. 5-
مَنْ هؤلاء الذين يصّاعدون بعباءاتهم البيضاء، ويخترقون الركام الساخن، كأنهم ضوء أو هيولا؟
ومَنْ الذين يلفّون سماء الغبار بغلالات شفيفة كأنها الغيم الخفيف، ويرحلون مع الهواء؟
ومَنْ ذاك الذي يقف في الفراغ، ويمدّ ذراعيه، فتتدلى أكمامه الواسعة، لتلامس الأرض، كأنه ينتظر مَنْ يعانقه؟
ومَنْ تلك التي تلبس على رأسها تاج النور، فتضيء الشام بهالتها الحليبية، وتفرّ منها الفراشات المضيئة كأزرار الثلج، وتسّاقط منها أزهار الياسمين؟
ومَنْ هذه التي تتهادى على فرس الغيم في طريق الغابة المطيرة، ويغطيها النوّار الأحمر؟
ومَنْ هذا الذي يمسك ذراع العروس، ويخطو معها على ماء النغم الهدهاد الرتيب، فتثور النوافير الملوّنة حولهما؟
ولمَنْ هذه الزفّة الصاخبة التي تضوّع الشرفات بزغاريدها وصهيلها ورقصات مزاميرها؟
………
أيقظوه، إنه يحلم، كعادته!
لا.. لم يمت تماماً ! إنه شهيد
المتوكل طه
كاتب وشاعر فلسطيني