رغم زيدان وغيره… القدس عربية وليعلم ذلك

بقلم: فايز رشيد

طلع علينا الكاتب والروائي المصري يوسف زيدان بالقول "إن المسجد الموجود في مدينة القدس المحتلة، ليس المسجد الأقصى ذا القدسية الدينية، الذي ورد في القرآن الكريم، والذي أسرى إليه الرسول محمد".
وأضاف خلال لقاء له في برنامج "ممكن"، الذي تبثه قناة "سي بي سي"، أن المسجد الأقصى الحقيقي الذي ذكر في القرآن يقع على طريق الطائف، بينما المسجد الكائن في فلسطين لم يكن موجودًا من الأساس في عهد الرسول محمد، وأن من بناه هو عبد الملك بن مروان في العصر الأموي"، حسبما يقول، خالصا إلى نتيجة، أن الحرب مع إسرائيل حول القدس لا معنى لها، قائلا: "ما يحدث حاليًا هو صراع سياسي حول الأرض، ولا علاقة للدين به"، وشكك في معجزة الإسراء وغيرها..الخ.
غريب أمر هذا المنطق، فإما أن الكاتب يجهل تاريخ القدس، وإما أن في خلايا دماغه تكمن مشروعات مجهولة، وانصحه والحالة هذه ان يكون بعيدا عن السياسة وقضاياها، وأن يقصر كتاباته فقط على الأدب، ذلك أن المرحلة الذي يظهر فيها هذا الرأي وأمثاله، هي مرحلة يطرح فيها الكيان ويشدد على "يهودية القدس"، وآراء زيدان وأشباهه تعطي للكيان الحق في ادعاءاتهم. في الوقت الذي يؤكد فيه مؤرخون عالميون (بمن فيهم يهود إسرائيليون) عروبة القدس قلبا وقالبا.
في الواعي من حياتي ، وحول تناول روائيين عربا لموضوع القدس، قرأت ثلاث روايات، الأولى بعنوان "مدينة الله" للروائي والقاص الفلسطيني الذي يعيش في سوريا، حسن حميد، التي هي عبارة عن رسائل يكتبها الراوي إلى شخص… يخطها فلاديمير بودنسكي إلى أستاذه ومواطنه جورج إيفان، أما دور الروائي فهو الناشر لهذه الرسائل. يقول حميد عن روايته وفي مقدمتها: "لم أكتب هذه الرواية بأسلوب السرد المعروف، كما في أي قصة اجتماعية، وإنما تحدثت عن القدس وأهلها وعاداتهم، عبر رسائل يكتبها الراوي". في روايته يفتح حسن حميد أبواب القدس، والعديد من المدن الفلسطينية. هي رواية للتاريخ والأجيال تنطق بأن "مدينة الله"رغم كل الآلام والجراحات، ستظل عربية.
الرواية الثانية هي "سوناتا لأشباح القدس" لواسيني الأعرج، تقف للأسف على الحياد في الصراع الفلسطيني العربي- الصهيوني، فالروائي يورد على لسان بطلة روايته "مي"، التي كانت قد هاجرت إلى المنفى في الثامنة من عمرها وتعيش حنيناً دائماً إلى مدينتها، تصف الذاكرة بالملعونة "لأنها تضعنا أمام جراحاتنا في الوقت الذي تشاء"، وهي أيضاً تحذّر ابنها من الانشداد للماضي، لأنه خيانة للحاضر، وهي تقول "القدس خبز الله وماؤه مدينة تكفي الجميع"، وتقول: "تعبت وأندم كثيراً على أنني لم أبق هناك، لا لتحرير الأرض فهذه مسألة لم تعد واردة على الأقل بالنسبة لي، ولكن للموت فقط، والتمزق عند بوابات القدس".
الخالة دينا توجه نصيحة "غريبة" لمي، وهي أن تظل تعيش في أمريكا: "الآن هذه أرضك، فيها تعيشين وعليها تموتين، لا تلتفتي وراءك كثيراً، وإلا ستظلين معلقة في الهواء مثل أجراس الكنائس القديمة"، وتقول: "طلبوا مني أن أكسر زجاج أحد المحلات اليهودية، ولكن الحجارة التصقت بيدي، ليس خوفاً، فتربية خالي غسان جعلتني لا أخجل ولا أخاف، ولكن لأن صاحب المحل كان صديق خالي غسان، وكان يهودياً طيباً". تأتي دعوة الأعرج، الغاية في الغرابة والمغرقة في تقزيم الحقوق الفلسطينية والعربية في المدينة، في ظل إصرار الكيان وقادته على الادعاء بـ"يهودية القدس"، لعلم هؤلاء جميعا: القدس عربية خالصة، لا ولن تقبل القسمة على اثنين.
أما "ترانيم الغواية" لليلى الأطرش، فهي منحازة ما بين سطورها إلى القدس الفلسطينية العربية بكل إسلامييها ومسيحييها وأهلها. وهي أحد مضامين جوهر الصراع مع العدو الصهيوني، ولهذا يحاول تهويدها منذ احتلالها في عام 1967 وحتى هذه اللحظة بكافة الأشكال والوسائل. يحاولون تهويد الأقصى واقتسامه زمانيا ومكانياً مع المسلمين.. على طريق تقويضه، تمهيداً لبناء الهيكل المزعوم، ورغم أن علماء الآثار العالميون أكدوا عدم وجود أي آثار يهودية في القدس. بما يعني تأكيد عروبتها، من هؤلاء المؤرخة كاتلين كينون في كتابها "علم الآثار في الأرض المقدسة"، المؤرخ بيتر جيمس في كتابه "قرون الظلام"، توماس تومسون في كتابه "التاريخ المبكر لليهود"، حقائق أرنولد توينبي، غوستاف لوبون في كتاب "تاريخ الحضارات الأولى".
نعم، فلسطين عربية خالصة، هذا ما يقوله التاريخ. المؤرخ الإغريقي هيرودوت يؤكد "أن فلسطين هي جزء من بلاد الشام"، المؤرخون الفرنجة يؤكدون باجماع بالنص: "أن فلسطين ديار عربية"، المؤرخ الشهير هنري بريستيد يذكر بالكلمة "أن القدس هي حاضرة كنعانية"، بالطبع الكنعانيون هم قبائل عربية.. ولهذا أطلق على فلسطين اسم "بلاد كنعان". اليبوسيون العرب استوطنوا الأرض الفلسطينية منذ 4000 عام قبل الميلاد، واستوطنوا منطقة القدس عام 2500 ق.م. القدس عربية قبل ظهور الدين الإسلامي الحنيف، والتأريخ لعروبتها لا يبدأ من الفتح العربي الإسلامي لها في عام 638م مثلما يذهب العديد من المؤرخين للأسف القدس جزء أساس من فلسطين، ولذلك فالتأريخ للبلد ينطبق على مناطقه ولا يكون منفصلاً.
الخليفة الأموي مروان بن عبدالملك بنى مسجد قبة الصخرة، والقبة ذاتها تأكيداً لدخول الإسلام إلى المدينة. أما أصل ما يعتمد عليه اليهود من تسمية القدس بـ"أورشاليم" فالأصل في هذه التسمية أن اليبوسيين العرب هم من أطلقوا عليها الاسم وسموها "أورسالم" أي "مدينة السلام" من الأصل، بالتالي لا علاقة للاسم باليهود لا من قريب أو بعيد، ولا علاقة لهم بمدينتنا الخالدة.
صلاح الدين الأيوبي القائد العسكري والاستراتيجي الكبير، أدرك أهمية القدس بالنسبة لفلسطين وتاريخها العربي.. لذا انتقل إليها مباشرة بعد معركة حطين، واعتبرها المفتاح الرئيس لتحرير باقي المناطق الفلسطينية.
هذه نتف صغيرة من حقائق مدينة القدس التاريخية وارتباطها العضوي بالعروبة والإسلام بعد بضعة عقود من ظهوره.
بالمقابل، اعترف أبو الآثار (وهو لقب يطلق عليه في "إسرائيل")، وهو العالم الإسرائيلي الأبرز إسرائيل فلنكشتاين من جامعة تل أبيب. بعدم وجود أي صلة لليهود بالقدس.
جاء ذلك خلال تقرير نشرته مجلة "جيروزاليم ريبورت" الإسرائيلية، توضح فيه وجهة نظر فلنكشتاين، الذي أكد لها: أن علماء الآثار اليهود لم يعثروا على شواهد تاريخية أو أثرية تدعم بعض القصص الواردة في التوراة، كانتصار يوشع بن نون على كنعان. وشكك فلنكشتاين في قصة داوود الشخصية التوراتية الأكثر ارتباطاً بالقدس حسب المعتقدات اليهودية، فهو يقول إنه، لا يوجد أساس أو شاهد إثبات تاريخي على اتخاذ اليهود للقدس عاصمةً لهم، وإنه سيأتي من صلبهم من يشرف على ما يسمى بـ (الهيكل الثالث)، وأنه لا وجود لمملكتي يهودا وإسرائيل، وإن الاعتقاد بوجود المملكتين هو وهم وخيال. كما أكد عدم وجود أي شواهد على وجود "إمبراطورية يهودية تمتد من مصر حتى نهر الفرات"، وإن كان للممالك اليهودية (كما تقول التوراة) وجود فعلي، فقد كانت مجرد قبائل، وكانت معاركها مجرد حروب قبلية صغيرة. أما فيما يتعلق بهيكل سليمان، فلا يوجد أي شاهد أثري يدلل على أنه كان موجوداً بالفعل.
من جانبه، قال رفائيل جرينبرج وهو عالم آثار يهودي ويحاضر في جامعة تل أبيب: "إنه كان من المفترض أن تجد إسرائيل شيئاً حال واصلت الحفر لمدة ستة أسابيع، غير أن الإسرائيليين يقومون بالحفر في القدس لأعوام بدون العثور على شيء". من زاوية ثانية، اتفق البروفيسور يوني مزراحي وهو عالم آثار مستقل، عمل سابقاً مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية مع رأي سابقيْه قائلاً: لم تعثر "إسرائيل" حتى لو على لافتة مكتوب عليها ـ مرحباً بكم في قصر داود- واستطرد قائلاً: ما تقوم به "إسرائيل" من استخدام لعلم الآثار بشكل مخّل يهدف إلى طرد الفلسطينيين الذين يعيشون في القدس وتحويلها إلى يهودية".
بالطبع، ما قاله العلماء اليهود الثلاثة، الذين يعيشون في "إسرائيل" ليس جديداً، فكثيرون قالوه قبلهم مثلما ذكرنا. صورتان متقابلتان نضعهما بين أيدي القرّاء بدون تعليق المحزن المبكي في آن معا، ما يطرحه بعض العرب أبهذه السهولة يتخلى البعض منا عن روح فلسطين.. وهي القدس؟. رغم كل ذلك: الشايلوكيون الصهيونيون لا يقبلون إلا "بأن تكون كل القدس عاصمتهم الموحّدة" خسئوا .. فالقدس عربية خالصة.. كانت.. وستظل عربية.. عربية.. عربية.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد