مع فوضى الربيع العربي وربما قبل ذلك بسنوات قلائل أصبحنا نسمع خطابا سياسيا جديدا يروج على لسان وفي كتابات السياسيين العرب والفلسطينيين يتماها مع خطاب إسرائيل وواشنطن من حيث تشخيص الصراع في المنطقة ، ومفاده أن هناك قضايا ومشاكل في المنطقة أهم من القضية الفلسطينية ولها الأولوية عليها. هذا الخطاب يعتبر القضية الفلسطينية أقل درجة وأهمية من القضايا الأخرى في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط ، وفي أفضل الحالات في نفس درجة ونوع القضايا الأخرى في المنطقة، في تجاهل تام لاختلاف خصوصية وطبيعة القضية الفلسطينية عن قضايا ومشاكل المنطقة .
صحيح أن الصراع العربي الإسرائيلي لم يعد الصراع الوحيد في المنطقة المُهَدد لاستقرارها وللسلام العالمي، حيث المنطقة تعج بالصراعات الدينية والمذهبية والحروب الأهلية وبصراع الأجندات والمشاريع الإقليمية، وصحيح أن شعوبا غير الشعب الفلسطيني أصبحت ونتيجة فوضى (الربيع العربي) تعيش مأساة اللجوء والتشرد والبحث عن مكان إقامة أو جواز سفر، وصحيح أن مشاكل هؤلاء تشغل العالم وتهيمن على مشهد الأحداث في الشرق الأوسط .... ولكن ودون التقليل من أهمية هذه القضايا ومع تلمسنا لمعاناة شعوب المنطقة وهول المصيبة التي يتعرضون لها، إلا أن ما تعرفه هذه الشعوب، كالشعب السوري مثلا، حالة جزئية ومؤقتة وعابرة، وهي صراعات وإن أخذت طابعا مذهبيا إلا أنها صراع على السلطة ومنابع وأنابيب النفط،، حتى وإن كان ضمن مخططات الدول الكبرى إعادة رسم خريطة المنطقة وإحداث تغيير في الحدود أو رسم (حدود الدم) كما قال الجنرال الأمريكي رالف بيترز، إلا أنه لا يوجد ما يشير بأن شعوبا من خارج المنطقة تريد احتلال دول المنطقة والحلول محل شعوبها، وحتى على المستوى الإنساني فإن غالبية اللاجئين الذين يغادرون وطنهم يقومون بذلك بإرادتهم كما يمكنهم العودة لبلدانهم بعد نهاية الأحداث وتوقف القتال.
أما القضية الفلسطينية أو ما كان يسمى الصراع العربي الإسرائيلي فطبيعته مختلفة ومخاطرة أكبر من كل المخاطر التي قد تترتب عن حالة الفوضى في المنطقة العربية، بل إنه يكمن في خلفية تفكير إسرائيل ومخططي فوضى الربيع العربي غرس قناعة لدى شعوب المنطقة والعالم بأن ما يهدد الأمن والاستقرار في العالم ليست إسرائيل واحتلالها لفلسطين ولأراضي عربية أخرى بل العرب أنفسهم بدولهم غير الديمقراطية وإسلامهم المُختلف على تفسيره، وثقافتهم الجاهلة التي تشكل حاضنة للإرهاب .
لكل ذلك، ليس صحيحا القول أو بريئا التصرف الذي يتجاهل ما يجري للشعب الفلسطيني بذريعة أنه ليس الوحيد الذي يعاني من الإرهاب والتشرد والحصار، ومردود على من يعمل على لي عنق الحقيقة بإجراء مقارنة بين حجم الدمار وعدد القتلى في دول الربيع العربي بما يجري في فلسطين. ذلك أن طبيعة الوجود الإسرائيلي والمشروع الصهيوني تختلف عن طبيعة ما يجري في دول الجوار، ومأساة الشعب الفلسطيني ليست حالة طارئة بل حالة مستمرة منذ سبع وستين عاما، واللاجئون الفلسطينيون لم يغادروا بلادهم بحثا عن بلاد أكثر أمنا وفرص عمل أفضل بل تم إجبارهم على مغادرة مدنهم وقراهم ليحل محلهم جماعة دخيلة، كما أنه غير مسموح لهم العودة إلى وطنهم، كما أنهم مهددون بثقافتهم وهويتهم ووجودهم الوطني .
الخطأ سيكون خطيئة عندما يتم تبني الرواية الإسرائيلية والأمريكية من طرف مسئولين فلسطينيين، لأنهم بذلك يمارسون كي الوعي على شعبهم لتبرير تقاعسهم وفشلهم وصمتهم عما يعانيه الفلسطينيين من حصار واستيطان وإرهاب صهيوني وعلى المعابر والحدود وتجاهل العالم للقضية الفلسطينية، يبررون كل ذلك بأن الشعوب الأخرى تعاني كما يعاني الفلسطينيون وأن هناك قضايا أكثر أهمية من القضية الفلسطينية .
إن كي الوعي أكثر خطرا من الهزائم العسكرية، وبالتالي فإن خطر السياسيين الفلسطينيين أو الليبراليين الفلسطينيين الجدد الذي صيرتهم الظروف والصدفة أو التخطيط التآمري على القضية إلى أن يكونوا في موقع صناع القرار، خطر هؤلاء الذين يمارسون كي الوعي على الشعب لا يقل عن خطر الاحتلال .
لا نبرئ العرب من المسؤولية عن مشاكلهم وعن الإرهاب الذي يضرب في كل مكان ويدمرهم قبل وأكثر مما يدمر الآخرين، ولكن إسرائيل ليست بعيدة عن كثير من حالات الفوضى في العالم العربي لأنها مستفيدة من مزيد من تقسيم وإضعاف العرب، كما أن استمرارها في احتلال فلسطين والمسجد الأقصى وتدنيس المقدسات سيمنح بعض الجماعات لممارسة العنف باسم حماية المقدسات. لا يجوز الاستسلام والقبول بالمنطق والرواية الإسرائيلية وعند البعض في الغرب وفي العالم العربي بأن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد الإرهاب الفلسطيني كما يفعل الغرب وكما تفعل الأنظمة العربية، كما لا يجوز مماهاة قضية اللاجئين السوريين باللاجئين الفلسطينيين، وإن كان صحيحا أن الإرهاب خطر يهدد الجميع ،إلا أن خطر إرهاب بعض جماعات الإسلام السياسي خطر مؤقت وعابر بينما خطر إسرائيل وإرهابها فخطر وجودي ودائم .
إن كانت إسرائيل وواشنطن تريدان تجاهل القضية الفلسطينية وإسقاطها من سلم الاهتمامات الدولية فإن المطلوب من القيادات الوطنية الفلسطينية الصادقة ومن النخب والكُتاب والمثقفين التفكر والعمل على رد الاعتبار للقضية والرواية الفلسطينية، ودفع العالم لإعادة وضعها في أولوية سلم اهتماماته، لأنها أكثر القضايا الدولية عدالة ومعاناة الشعب الفلسطيني لا توازيها أية معاناة لأي شعب.
بقلم/ د. إبراهيم أبراش