حين يسقطُ في أيِّ أرض جدارٌ سيسقطُ ذاك الذي قد بناه

بقلم: إبراهيم نصر الله

أنت تحبُّ شخصا، أو عملاً فنيا، ليس هذا لأنك تميل إليه فقط، في لحظة ما، بل لأن هناك شيئاً فيك يدرك أن معاني أخرى ستكتشفها كلما اقتربت منه أو أحببته أكثر، وأحبك. وهكذا فرقة "بينك فلويد" وعملها العظيم: الجدار.
في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، ذهبت وبعض الأصدقاء لمشاهدة فيلم (الجدار) مدفوعين إلى الصالة باسم مخرجه البريطاني ألن باركر، أكثر من أي شيء آخر. إذ لم يقرأ أي منا شيئاً عن الفيلم من قبل.
في الصالة الكبيرة لم يكن هناك الكثير، ربما خمسة عشر مشاهدا. منذ اللحظة الأولى للفيلم أسرني بلغة سينمائية استثنائية، مختلفة، وذات دلالات متعددة، وتقاطع فذّ بين أزمنة الطفولة وأزمنة الحرب وأزمنة ثورة شباب الستينيات في ظلال حرب فيتنام. وقبل هذا وبعده، أسرتني تلك الأغنيات التي تشكل العمود الفقري للفيلم وقوتها الهائلة في اختراق القلب البشري والذهاب بعيداً في تعرية أزمنة الفاشيات، قديمها وحديثها.
للأسف لم يحتمل بعض أولئك الموجودين في الصالة فيلماً مختلفاً، فصاح أحدهم: هل هذا فيلم؟! وخرجوا ساخطين يبحثون عن الضحالة خارج تلك العتمة الباهرة المضيئة!
منذ ذلك الزمان، شاهدت فيلم الجدار أكثر من عشر مرات، مرة في السينما، ومرات على أشرطة الفيديو، ثم الـ"دّي ڤي دي"، وصولاً إلى عصر دلال العين وأعني: نسخ البلوري. ودائماً ظل الحضور البهي للفيلم قوياً وأخاذاً، وفي كل مرة يمنحني أبعاداً جديدة وتفاصيل حاذقة، كما لو أنه النهر الذي لا يمكن أن تستحمّ به مرتين. لهذا السبب بالذات لم أستطع الكتابة عنه، كما لو أنه الفيلم الذي لا ينتهي، لن ينتهي.
بعد سقوط جدار برلين، أقامت فرقة بينك فلويد حفلاً هائلاً خلفيته الجدار الذي سقط. وكان أغرب إحساس انتابني هو: كيف لم يسقط الجدار مع وجود مثل هذه الأغاني العظيمة؟! وحين شرعت الدولة الصهيونية في بناء الجدار الذي يشطر فلسطين نصفين، أحسست أنها تبني جداراً تريده أن يكون أعلى وأصلب وأطول وأقبح وأعلى وأكثر نازية من ذلك الجدار الذي انهار. أرادت أن تبني جداراً عصيّاً، لا تخترقه الأغنيات ولا تهزّه.
كان من الطبيعي أن يقوم روجر ووترز مغني "بينك فلويد" ومؤسسها، والناشط الكبير في حركة مقاطعة الكيان الصهيوني بالخطوة التي انتظرناها، أن يوجّه تلك الطاقة الكامنة في أغنيات مشروعه الكبير (الجدار) نحو جدار آخر محتشد بالغرور والعنجهية والتفرقة العنصرية وأسوأ معاني العزْل وأقبحها، ليحوِّل مجرى نهر أغنيته العظيم نحو جدار الفصل العنصري الصهيوني، ليجتاحه.
أغنية (Hey you) كانت الأكثر ملاءّمة وقوة لكليب المخرج الفلسطيني محمد الخطيب بالإشتراك مع شاي بولاك، وتصوير هيثم الخطيب وتقي برناط.
إنه الفيلم الذي نحتاجه، والأغنية التي عشقناها، ليس وحدنا فقط، بل كان بحاجة ماسة إليهما، الفيلم والأغنية، المليون ونصف المليون إنسان الذين شاهدوا الفيلم في أقل من أربع وعشرين ساعة.
إن هذا الإقبال على مشاهدة فيديو (أحلام محررة) المستوحى من أغنية "بينك فلويد"، والذي صُوِّر بذكاء وفنية عالية، ونادرة، رأيناها في فيلم محمد الخطيب السابق (الحياة مقاومة)، إن هذا الإقبال هو استفتاء نوعي حققت فيه الحرية أعلى نسب النجاح عالميا، واستفتاء رفعَ (لا) كبيرة في وجه العنصرية وحماتها من أصحاب المواقف اللزجة، والقتلة الذين يتابعون ذبح الفلسطيني في مسلسل من حلقة واحدة بدأ بثها منذ ثمانية وستين عاماً وما زالوا ينتظرون بشغف كل ثانية دامية فيها.
يستدعي فيلم أحلام محررة كعمل فني مكتمل، ذلك الدّور الذي لم يزل الفن قادراً على أن يلعبه، بعيداً عن بذخ الترفّع عما هو وطني وعام، روّج له أحياناً شعراء كبار! حتى أن أحدهم قال لصحيفة لوموند ذات يوم: (أنصح الشعراء الفلسطينيين الشباب بالابتعاد عن فلسطين كموضوع لقصائدهم.) كما لو أن ورودَ اسم فلسطين في أعمالهم (الإنسانية الكونية) سينقُض وضوء تلك الأعمال! في وقت رأينا فيه بعضاً من أهم حملة جائزة نوبل لا يتوانون عن إعلان مواقفهم، بفنهم، وتصريحاتهم الواضحة، ضد العنصرية الصهيونية، مثلما فعل غونتر غراس وماركيز وسارماغو.
روجر ووترز مؤسس "بينك فلويد" يقول بوضوح: إن الإيمان بالحرية للشعب الفلسطيني أهم من مهنتي الموسيقية.
يُفرح المرءَ قولٌ كهذا، ويُحزنه أيضا، يُفرحه أن هناك بشراً ما زالوا قادرين على أن يبعثوا الأمل فينا وهم يؤكدون أن لا فن بعيداً عن الكرامة والجمال والعدالة. ويُحزن المرء انكماش صوت الوطن في الأغنية الفلسطينية بشكل خاص، باستثناءات قليلة، ونحن نرى فنانين يهرولون نحو كونيتهم، وينسون أنها خلفهم قائمة في شجرة يجب أن لا يسمحوا لعدوِّهم بأن يقطعها، وشاب يجب ألا يسمحوا لعدوِّهم بأن يقتله بصمت، أو يروِّع أو يقتل صغيرة في طريقها للمدرسة، وضعت الأم قلبها في حقيبة تلك الصغيرة، خلسة، لكي تطمئن عليها..
إنها تحية لفرقة "بينك فلويد" وروجر ووترز ومحمد الخطيب، وكل الرائعين الذين لا يقبلون بأن تكون جدران العنصرية أعلى من فنّهم.
وبعد:

الهواء عليلٌ،
يقولُ صغيرٌ، هنا، بعدَ حينٍ،
له شمسُهُ، ريحهُ، ومداهْ
والأناشيدُ تملأهُ بالحياهْ
ثم يكتبُ بالضوءِ وهو يُنَقِّلُ، رقْصًا، خطاهْ:
حين يَسقطُ في أيِّ أرضٍ جدارٌ
سيسقُطُ ذاكَ الذي قد بناهْ

إبراهيم نصر الله