هيكل… وغياب دور مصر الريادي

بقلم: فايز رشيد

 

قدم الأستاذ محمد حسنين هيكل وجبة أخرى من سلسلة حلقات برنامج (مصر أين وإلى أين؟) بشكل مقابلات طويلة أجرتها معه الإعلامية لميس الحديدي في فضائية "CBC" المصرية. في كل إطلالة تلفزيونية لهيكل مجموعة من التصريحات تتعلق بأوضاع مصر الراهنة وتطلعاته لاسترداد الدور العربي القيادي الذي كان لها. يرى هيكل أن لمصر دوراً لم تعد تقوم به هو أن تكون موجودة عربياً بدور قيادي. هيكل يؤكد أهمية سوريا عربياً وواجب مصر في دعمها، ومن يقبل الاتصال مع إسرائيل لا يحق له أن يترفع عن الاتصال مع نظام الأسد. وبشكل عام يريد هيكل أن تتوجه مصر إلى الشعب السوري مباشرة. هيكل متألم لأن العالم لم يعد يرى في مصر مركزاً لمقاومة الاستعمار ودعم حركات تحرر الشعوب (أيام عبد الناصر) بل ينظر إلى العرب باعتبارهم مجموعة بشرية مكونة من إرهابيين ورجعيين. يقول هيكل على لسان رئيس الوزراء الأسبق شارون: أن الأمن الحقيقي لإسرائيل تجاه الخطر العربي لا يكون باستعمـــال القوة فقط، فهي تقدم حلولاً مؤقتة، أما الأمن الحقيقي لإسرائيل فلا يكون إلا بوجود تناقضات تصل إلى حد العنف بين الدول العربية، ما يؤدي إلى التخلي عن العداء لإسرائيل كأولوية. أي أن الواقع العربي الراهن نموذجي بالنسبة لأمن إسرائيل دون أن يكون معنى ذلك بالضرورة أن إسرائيل أسهمت في ايصال العرب إلى الواقع البائس. في النظر إلى المستقبل القريب طالب هيكل القيادة المصرية بتقديم رؤية للمستقبل العربي وخريطة أمل للشعب المصري.
بغض النظر عن اتفاق البعض مع وجهات نظر هيكل أو لا، لكنه يقدم وجهة نظر موضوعية فيما يتعلق بالوضع المصري! ذلك أن جيلنا تربى على دور مصر العربي في عهد عبدالناصر. مصر، التي كانت بمثابة الأم للعالم العربي، بؤرة للنضال الوطني التحرري على صعيد آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. مصر، التي لم تستطع لا أمريكا ولا روسيا ولا أوروبا تجاهل دورها. مصر محج الثوريين على صعيد العالم. مصر، التي تآمرت عليها بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في عدوان عام 1956 وأفشلت العدوان. مصر الشقيقة الكبرى للدول العربية وتحرر بعضها: الجزائر، اليمن الجنوبي، عُمان وغيرها. مصر عدم الانحياز. مصر مصدر التحولات المفصلية في المنطقة: تأميم القناة، توزيع الأراضي، التصنيع العسكري، مصر الحضارة والتاريخ، وأخيرا لا آخرا مصر العروبة ومجابهة الكيان الصهيوني. كان من الطبيعي أن تتآمر أمريكا والغرب والكيان على مصر، وكانت حرب عام 1967 التي كتب عنها هيكل. ولعلني أحيل القارئ العربي لمذكرات ليندون جونسون ومؤلف الكاتب الفلسطيني الكبير هشام شرابي عن الهدف من عدوان حرب عام 1967 المتمثل في إسقاط عبدالناصر وتجربته، باعتبارهما رأس جسر مرحلة التحرر العربي والأفريقي والآسيوي والأمريكي اللاتيني من نير الاستعمار البغيض. اعترف ناصر بالهزيمة وتحمل المسؤولية بكل شجاعة واستقال من منصبه.
قامت الجماهير العربية في كل أنحاء العالم العربي وفي مصر لتطالبه بالعدول عن الاستقالة. خاض حرب الاستنزاف وكانت المساعدات التسليحية الروسية التي خاض بها السادات حربه التحريكية البعيدة كل البعد عن التحرير. رغم هول الهزيمة رفع عبدالناصر شعار: لا صلح، لا اعتراف ولا مفاوضات مع الكيان. كان ذلك في مؤتمر القمة العربي في الخرطوم عام 1968. للرجل بالطبع أخطاؤه الكبيرة والكثيرة ولا يمكن لأحد الدفاع عنها، غير أنه كان عظيما. جاء من بعده كل الرؤساء الآخرين وصولا إلى الحالي السيسي. كلهم قزّموا دور مصر عربيا وإقليميا ودوليا. الرئيس الحالي وفي آخر تقليعاته: عيّن الكاتبة الصحافية لميس جابر لتكون عضوة في مجلس النواب. جابر أعلنت بشكل صريح عدم اعترافها بالقومية العربية، وطالبت بطرد أي فلسطيني من مصر مع مصادرة أمواله، كما صرّحت من قبل بأنها لا تؤمن بالقضية الفلسطينية، ولم تخفِ أيضاً موقفها من ثورة 25 يناير، واصفة إياها بالانقلاب. كانت جابر قد صرحت في منتصف 2014، حرفيا: "إحنا بناخذ التموين المدعوم ونبعته لغزة، وهما بيقتلوا أولادنا، والخونة الكلاب بيعملوا مؤتمرات لدعم غزة، الخونة من الفلسطينيين بيشتموا في مصر ورئيسها". ولم تتوقف جابر عند تلك الفكرة فقط بل طالبت بمنع أي عمل إنساني تجاه أبناء فلسطين، وذلك حين قالت إنه يجب غلق المعابر إلى أجل غير مسمى، وإلغاء كلمة "حالات إنسانية وجرحى"!. نقول ما سبق:لأن هيكل كان قريبا من عبدالناصر وصولا إلى حد الالتصاق طيلة حياته، تماما كما كان أندريه مالرو من ديغول وبابلو نيرودا من سلفادور الليندي وغيرهم الكثير. التصاق الكاتب بالزعيم يضاعف من شهرة الأول، غير أن هيكل كان معروفا قبل صلاته مع عبدالناصر قبيل ثورة عام 1952 وما تلاها. كان هيكل شاهدا حقيقيا على كل ما قلناه. اعتذر عن قبول منصب وزير الثقافة عندما سماه السادات للمنصب بعد وفاة عبدالناصر عام 1970، مما نعتبره ابتعادا عن المناصب، فامبراطوريته ومركزه في "الأهرام" أكبر وأبهى من كل المناصب. في مطلع شبابي أواسط الستينيات كنت حريصا على سماع مقالة محمد حسنين هيكل الأسبوعية (بصراحة) في "الأهرام" من إذاعة "صوت العرب" أيام الجمعة من كل أسبوع. في أحدها كتب هيكل أنه الذي اقترح على عبدالناصر اصطحاب المرحوم ياسر عرفات إلى موسكو في إحدى زياراته للعاصمة السوفييتية. كانت تلك بداية العلاقات الفلسطينية ـ السوفييتية. كشف هيكل الكثير من الأحداث السياسية في مقالاته.
قبل بضعة أعوام، قاموا بإشعال النيران في فيللا هيكل، وتمكنوا من إحراق المكتبة الملحقة بها. ووفقاً لمصادر أمنية: تبين من المعاينة حرق 18 ألف مخطوطة ووثيقة وبعض الكتب النادرة. لقد تم نهب أغلب محتويات المكتبة من صور ووثائق متعلقة بالفترة الناصرية، ومستندات تخص أدق تفاصيل حربي 56 و67 حسبما ذكرت الصحافة المصرية حينها. العملية كانت بربرية بامتياز، تتشابه مع ما اقترفه جيش هولاكو برمي الكتب النادرة في نهر دجلة، حتى أصبحت مياهه سوداء من الحبر، وذلك سنة 1358م. وتتماهى مع حرق كتب ابن رشد، وما اقترفه النازيون في عام 1933 حين قاموا بحرق الكتب غير الألمانية من تلك المناهضة للثقافة النازية.
وبالمناسبة، لعل الوحيد الذي قام بحرق مكتبته احتجاجا.. هو ابن خلدون، بعد أن واجه ظلماً كبيراً من الحكام، ومن تدخل في كتابته الجريئة والإنسانية (وفقاً لمقاييس عصرها). الذين قاموا بحرق مكتبة هيكل بعد نهبها، وسرقة العديد من كتبها ووثائقها، هم مجرمون، فما انحرق وما جرى إتلافه، وما سُرِق لا يمكن تعويضه بثمن! ما أسهل هدم بناية أمام إحراق مكتبة ولو صغيرة، وبخاصة إذا احتوت كتباً نادرة! البناية يمكن إعادة بنائها وبمواصفات أجمل وأحدث، أما المكتبة المحروقة، فلا يمكن تعويضها. ما زلت أتأسف على مكتبتنا الصغيرة ومجموعة صور لي وللأهل في بيتنا في قلقيلية، عندما احتلتها قوات الاحتلال الصهيوني عام 1967 وهدمت ما يقارب الألفي بيت من بيوتاتها، وكان بيتنا أحد تلك البيوت. كان أخي الدارس حينها في مصر يزودنا بالكتب وبخاصة النادرة. رغم ما يزيد على الخمسة عقود على هدم البيت ما زلت أتألم وكأن الحادثة المجرمة حصلت فقط بالأمس.
هيكل إنسان كبير. أذكر أنني في عام 1998 وعندما خططت لإصدار كتابي بعنوان "خمسون عاما على النكبة"، وفيه وجهت خمسة أسئلة لحوالي خمسين زعيما من الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية والكفاءات السياسية والفكرية والحزبية العربية، وفي لقاء مع الصديق المرحوم حافظ طوقان رئيس بلدية نابلس الأسبق، الوطني الفلسطيني والقومي العربي الناصري بامتياز والمبعد من وطننا، أنه أشار عليّ باستفتاء هيكل! فهو صديق له. رغم ارتياعي من الفكرة وخشيتي من النتيجة، وكنت ما زلت أعتبر مبتدءا في عالم الكتابة، نفذت اقتراحه وأرسلت للكبير فاكسا بالنص نفسه الموجه إلى غيره. فوجئت بعد يومين برد مطبوع منه على الفاكس، يخبرني عن استحسانه للفكرة مع اعتذاره بسبب أن أسئلتي تحتاج إلى ردود لا تكفيها 4 صفحات ( كما حددت في الأسئلة حجم الإجابات!)،لا 40 ولا 400 صفحة، مبديا رغبته في رؤية الكتاب مطبوعا. أدركت حينها خطأي الجسيم في تحديد حجم الإجابة للجميع وبخاصة لقامة كبيرة مثل هيكل! أرسلت له الكتاب بعد طباعته وجاءني شكره الدمث، وتوالت كتبي… ورسائل شكره. من بين من أكتب عنهم في هذا المضمار: الراحل الكبير صدام حسين، ورغم اختلافي مع العديد من آرائه وتطبيقاته وخطواته المدمرة.. لكنه كان شجاعا في لحظة الإعدام وفي تعييشه لفلسطين حرة عربية. وصلني كتاب شكر منه على إهدائي له كتابي "تزوير التاريخ… في الرد على كتاب نتنياهو: مكان تحت الشمس"، بناء على رغبة السفير العراقي في عمان حين صدور الكتاب عام 1998.
رد الرئيس العراقي، وإضافة إلى حرارة الرد والشكر تضمن نقاشا للكتاب، الأمر الذي دلل على قراءته له!.. بالفعل: الكبار يظلون كبارا! أكتب حقيقة في ظل زمن قلت فيه القامات الكبيرة، وازداد فيه المغرورون من أدعياء الثقافة والصحافة .. هؤلاء الذين يعيشون شعورا بالعظمة تهيئه لهم خيالاتهم أو مناصبهم … تراهم يأنفون عن نتاجات الغير.. ولا يرون إبداعا إلا في دوائر نتاجاتهم! الأحرى بهؤلاء أن يتعلموا من القامات الكبيرة.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد