المسافات في فلسطين لا تقاس بالزمن العادي والطبيعي، لأن زمن الاحتلال هو المسيطر ارضا وجوا وبحرا، دقائق وساعات وشهقات ، وأحيانا موتا وحياة.
مائة وعشرون دقيقة، استغرق وصولي من مدينة بيت لحم الى مدينة الخليل، وكدت ان لا اصل، فالمسافة التي لا تستغرق سوى خمسة وعشرين دقيقة، امتدت وطالت، وشحنت بالتوتر والدهشة وعدم اليقين.
تاهت بي الطرق والمداخل والمنعطفات، حواجز ثابتة وحواجز طيارة، من الامام والخلف، من اليمن واليسار ، القناصون والسيارات العسكرية تغلق الشوارع وتوقف المارة والمركبات ساعات وساعات، لأجد مدينة الخليل مخنوقة، مشدودة من جدائلها السبع، يشدون على رقبتها وانفاسها، يحشرونها داخل اقفاص ضيقة ، يحرسها الجنود والمستوطنون، يتربصون بالداخل والخارج، بالواقف والقاعد، وبالحالم والنائم وفجر الصباح.
الامم المتحدة في تقريرها الذي يرصد الوضع الفلسطيني خلال عام 2015، اشارت انه سجل رقما قياسيا لعدد الحواجز الطيارةفي الخليل لتصل الى 130 حاجزا وربما اكثر ، اضافة الى اغلاق ثلاثة مداخل للمدينة ، فالخوف الاسرائيلي تحول الى جدران وسجون ، وكما يقول الصحفي الاسرائيلي (اوري مسعاف) ان اسرائيل تحولت الى دولة الشعوذة والهوس، والاشتباه حتى بصوت الرياح.
ولأنني من بيت لحم ، عليّ ان اعبر عن مفترق عتصيون العسكري، مفترق الموت، واطفيء شمعة الميلاد، وقبل ان أتوغل في الشوارع اكثر، استعد تماما لكل الاحتمالات ، ولتلك الاصابع الرخوة التي تضغط بسهولة على الزناد، رائحة دماء شهداء عائلة الكوازبة لازالت ساخنة هنا، جثث ملقاة في الشارع.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، وأرى في طريقي الوعر المتعثر ، مئات المستوطنات والاشجار المقطوعة والاراضي المصادرة ، فالطبيعة تغيرت من حولي، لا حجارة ولا زيتون ولا طيور، لا فلاحين يحرثون الارض او ينتشلون الماء من الآبار الصخرية، لا رائحة للزعتر البلدي والميرمية، انها علب اسمنتية لمستوطنات جرفت الارض وخطفت المكان وصادرت الحياة.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، مواعيدي ليست مقدسة، ووصولي غير مؤكد، وعليّ ان اقطع هذه الرحلة الرمادية، وانجح في تجاوز مئات المكعبات الاسمنتية والسواتر الترابية والبوابات الحديدية، وأبحث في جسد الارض عن نوافذ لأعبر من جسدي الى جسدي.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، وربما أقدر ان اعبر كالظل او كالعنكبوت، واتجاوز مفرق بيت عينون، وفرش الهوا، ومدخل النبي يونس، ومفرق الحرايق، ومدخل الفوار ومدخل دورا، ومدخل بيت امر، ومدخل سعير، ومدخل بني نعيم، ومدخل واد سعير، ومدخل العروب، ومدخل يطا، وربما اجد فيها مدخلا واصل مدينتي، بعد ان اتوضأ بالرحمة وبالرجاء.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، وفي الطريق رأيت قرية سعير تحتشد مع شهدائها الاربعة، عاصمة الشهداء، يتوزع الشهداء على كل المداخل والمفترقات والبيوت، وكل شهيد يحمل مفتاحا يتدلى من القلب، والدم يجري بين الجسد والارض، هناك زفة وغناء وفضاء.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، وعلى مدى الخيال القريب، اشم رائحة القرى العتيقة، خلف هذا الجيل وذاك الواد، ديربان، القبو، علار، راس ابو عمار، بيت نتيف، زكريا، بيت جبريل، تل الصافي، وعندما نظرت الى الساعة ، وجدت ان عقاربها لا زالت تدق منذ النكبة في شريان اليد.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، اشجار صنوبر زرعت بدل الزيتون والتين، اقتلعوا الاسماء وقشروا جلدة الارض، والساعة تقول: كان هنا طابون وحقل قمح وجرن ومدرسة للبنات، كان هنا "عين المعمودية" التي تعمد بها ذلك الطفل الرضيع ، وآثار دير و قلعة مرّ عليها الاجداد والرهبان، والساعة تقول: لقد اوقفوا نبض المكان وغيروا اتجاه النبع.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، وفي هذه المسافة صدقت ما قاله الصحفي الاسرائيلي (تسفي برئيل) بأن السكان الفلسطينيين ليسوا هم فقط المسجونين في داخل روتين الاحتلال، فقد تحولت اسرائيل الى دولة مسيطر عليها من قبل الاحتلال وقوانينها، دولة تسجنني وتسجن نفسها وتفتخر بهذا الجنون.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، لم تشفع لي الصلاة في الكنيسة، ولا الدعاء في الحرم الابراهيمي، وما بينهما قضبان حديد على ابواب الافق، ورأيت الانبياء مشنوقين على اسلاك السماء.
وكان عليّ ان ابحث طريق آخر، ممر صخري او ترابي، ان اطير مثلا، ان اتشظى او اصير غبارا، وقد طال انتظاري لتلك الاجنحة التي ستحلق بي في وطني دون ان يصطادني قناص حاقد.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، اسأل نفسي من مزق جسدي الى اشلاء وبعثرني؟ كيف الملم حالي واسمع صوتي واعثر على خطواتي متكاملات؟ اكون أنا والمكان قابلين للحياة، لا أدري لماذا يفاوض المقتول قاتله، و ينتظر صوت النفيرفي الممات؟
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، يناديني الصحفي الاسرائيلي " ناحوم بارنيع" ويقول لي: بعد قليل سنذهب نحن الاسرائيلين الى حديقة الجرس في القدس مع مسدس في الحزام، فقد صارت دولة اسرائيل دولة خوف اليهود، روما تشتعل ونتنياهو يرقص ويعزف على القيثارة.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، لا جدار حي هنا يخلق التعايش كما تتمنى الكاتبة الاسرائيلية "دوريت رابنيان" ، فقد منعت وزارة التربية كتابها من تداوله بالمدارس، لأنه يتحدث عن الحب بين الفلسطيني والاسرائيلي، لا حب في هذه الارض المسلحة، هنا تصعد الفاشية.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، أقرأ من جديد تقرير الامم المتحدة الذي يقول بان الحواجز العسكرية تستخدم لإذلال الفلسطينيين، وهي مشابهة لقوانين العبور للأبرتهايد في جنوب أفريقيا السابقة، ولكني أختلف مع الامم المتحدة الآن، فالحواجز ليست للمرور المذل فقط، بل للقتل والاعدام وخطف الجثث.
مائة وعشرون دقيقة من بيت لحم الى الخليل، ولأن الارض تشققت وحملت اثقالها، وصارت معازل تأسرها الجدران والمستوطنات، قررت ان ابصر ما يبصر التراب، وان امشي مع الينابيع في ماء الوقت، فاليابسة احيانا اكثر تموجا من البحر.
يا اهل مدينة الخليل
اعتذر
لم اتقدم نحوكم اكثر
اعتذر
لم اصل حتى الان
انا واقف او عائد
مقتول او حي
وفي الحالتين سوف أتأخر
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الاسرى والمحررين
13-1-2016