لا يبدو أن ثمة إدراكا حقيقيا لأبعاد كارثة الانقسام الفلسطيني الذي ضرب القضية والشعب والحركة الوطنية الفلسطينية قبل ما يقرب من تسع سنوات، وإلاّ لكان الوضع مختلفاً، ولكن الشعب الفلسطيني في غنى عمّا يقاسيه منذ ذلك الوقت من أزمات. لا تزال تداعيات ذلك الزلزال، وارتداداته تولد المزيد من التصدعات في الأرض المتصدعة أساساً بسبب رفض إسرائيل المطلق للاستجابة لأية مبادرة سلامية تمكن الفلسطينيين من تحقيق الحد الأدنى من أدنى حقوق الشعب الفلسطيني، والكل يعرف أن القادم أسوأ، أسوأ بكثير.
كثيرون تساءلوا عما ينتظر الشعب الفلسطيني من وراء هذه الانتفاضة التي تجاوز عمرها المئة يوم، وتجاوزت المخاوف من إمكانية وأدها أو الالتفاف عليها، فالانتفاضة الشعبية الكبرى كما يقول هؤلاء أنتجت اتفاقية أوسلو، أما الثانية، فأنتجت انقساما فلسطينيا خطيرا. في كل مرة وقعت فيها انتفاضة، كان يتبعها خطابات حماسية متفائلة من هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، ولا نعتقد أن الأمر سيختلف هذه المرة مع الانتفاضة الجارية التي تسميها إسرائيل فردية، ولا يتقدم أحد من الفلسطينيين لتبني أُبوّتها.
متابعة الخطاب الإعلامي والسياسي والأمني الإسرائيلي خلال هذه الأيام، يعطي مؤشّرات قوية نحو ما تنوي الحكومة الإسرائيلية القيام به. ثمة تركيز في الخطاب الإسرائيلي على أن المقاومة في قطاع غزة، قامت بترميم كامل لشبكة الأنفاق الهجومية، وبترميم قدراتها القتالية، وإجراء العديد من تجارب إطلاق صواريخ في البحر، ما يعني أن إسرائيل تنوي القيام بعدوان كبير على القطاع لا يشكل مخرجاً لأزمتها وارتباكها إزاء كيفية التعامل مع الانتفاضة وإنما يوفر لها الفرصة، والذريعة للقفز نحو تنفيذ مخططاتها التوسعية.
حتى تحقق ذلك، تنتظر إسرائيل ردود فعل من قبل المقاومة في قطاع غزة على التصعيد الذي تمارسه إسرائيل يومياً ضد القطاع في البحر والبر ومن الجو، وآخره استهداف ما تدعي إسرائيل أنها مجموعة تقوم بزراعة عبوات ناسفة بالقرب من حدود القطاع الشرقية، ما أدى على استشهاد شاب وإصابة ثلاثة آخرين.
الأرجح أن فصائل المقاومة في غزة والمقصود أولاً واساساً، حركة حماس، الأرجح أن لا تبادر لإعطاء إسرائيل هذه الذريعة وأن تواصل التحلي بالصبر، ذلك أنها تعلم بأن أي رد فعل مهم، سيوفر لإسرائيل مبرراً لشن عدوان واسع لا يحتمله سكان القطاع. وفي الحسابات فإن إقدام المقاومة على توفير ذريعة لإسرائيل، سيجعل حماس ومن يسايرها مسؤولة عن أي عدوان، أمام الجماهير الفلسطينية، وأمام القوى الأخرى عربية كانت أم أجنبية.
أما السيناريو الثاني وهو الأقرب إلى التحقق فهو أن تقوم حماس بتصعيد الوضع في الضفة الغربية والقدس واراضي عام 1948، من خلال تفعيل العمل العسكري والعمليات الاستشهادية، وكل ذلك تحت عنوان تصعيد الانتفاضة والدفاع عن الشعب، وتدفيع إسرائيل ثمن الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني. مواقع التواصل الاجتماعي القريبة من حركة حماس أخذت تتحدث عن الاقتراب من هذا الأمر وعلى أن الخلايا النائمة مستعدة للتفعيل، وانها اكتسبت الخبرة اللازمة لتجاوز الحواجز، والمواقع العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
موضوعياً، فإن حركة حماس تعاني من أزمة، أزمة في التحالفات وأزمة تمويل، وأزمة حصار شديد، وأزمة خيارات في ظل الانقسام والأعباء الناجمة عن مسؤوليتها عن الناس في قطاع غزة، ولذلك من المنطقي الاعتقاد بأن تفعيل العمل العسكري ضد الاحتلال يشكل لها مخرجاً أو تحريكاً لعوامل قد تساعد في تخفيف هذه الأزمات أو بعضها، ولتأكيد خطابها الذي يقوم على التمسك ببرنامج المقاومة.
إسرائيل هي الأخرى مأزومة بعلاقتها مع الضفة سواء في البعد الذي يتعلق بالسياسة العامة الفلسطينية التي تعمق من عزلة إسرائيل على المستوى الدولي أو في البعد الذي يتعلق بفشلها في إخماد الانتفاضة.
ما الذي سيقع في مثل هذه الحالة، نقصد إذا توفرت لإسرائيل الذرائع لشن عدوان جديد على القطاع؟
من المتوقع أن تشكل الحرب الجديدة على القطاع، غطاءً لإقدام إسرائيل على انسحاب أحادي الجانب من نحو 40% من الضفة الغربية تمهيداً لضم بقية الأرض المصنفة (ج)، بالإضافة إلى القدس، وتكون بذلك قد قضت كلياً على إمكانية قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، وانفصلت عن نحو ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة. في هذه الحالة يمكن لإسرائيل أن تحتمل لبعض الوقت نحو سبعين ألف فلسطيني في مناطق (ج)، إلى أن تتخلص منهم في وقت لاحق. وبالتوازي، تشكل الحرب على غزة سبباً لإحياء مفاوضات حول هدنة طويلة مقابل الإفراج عن قطاع غزة، وفي هذه المرحلة الوسيط التركي موجود وجاهز بعد أن رممت تركيا علاقاتها بإسرائيل.
هل هناك أبشع من هذه النتائج، وأشدها خطورة، خصوصاً وأن العامل الخارجي الدولي والإقليمي والعربي، يساعد إسرائيل على تنفيذ مثل هذا المخطط بدون أن تتعرض لردود أفعال قوية. وإذا كان هذا ما تخطط له إسرائيل، فما هو الجزء الذي يتحمل الفلسطينيون المسؤولية عنه في الانزلاق نحو هذه الكارثة؟
طلال عوكل
2016-01-14