بعد أن دخل اتفاق فيينا بين إيران والدول الكبرى الست، حيّز التنفيذ العملي يوم أول من أمس، تكون إيران قد دخلت مرحلة جديدة من مراحل مراكمة القوة، التي تجعلها دولة فوق إقليمية، ولاعباً أساسياً، لا يمكن تجاوزه في الصراع الدائر في المنطقة وعليها.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية، قدمت شهادتها حول التزام إيران بالاتفاق الذي تم التوقيع عليه، الأمر الذي شكّل بداية نهاية مرحلة العقوبات القاسية التي تعرضت إليها إيران وبداية تحرير القدرات الإيرانية، ما أزعج أركان السياسة الإسرائيلية وبعض الدول العربية التي تناصب إيران عداءً، كان يمكن ومن المفروض تجنّبه.
إسرائيل كانت قلقة جداً من سعي إيران لامتلاك قدرات نووية وكانت ترغب وتسعى لتحريض حلفائها في الدول الغربية وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية، للتصدي عسكرياً لطموحات إيران لكنها لم تنجح، فلقد أرهقت الحروب الحليف الأميركي، فيما لا تستطيع إسرائيل وحدها التصدي عسكرياً لإيران.
إذا كان من الطبيعي أن تقلق إسرائيل على أمنها ووجودها في حال امتلكت إيران قدرات نووية، فالسؤال هو لماذا تقلق إسرائيل حين تنجح الدول الكبرى في وقف البرنامج النووي الإيراني بالطرق السياسية والدبلوماسية؟
من الواضح أن إسرائيل أولاً لا يروق لها وجود قوة إقليمية حتى لو كانت تركيا التي تقيم معها علاقات طبيعية، تستطيع ولديها الحافز لتوسيع دائرة نفوذها في منطقة الزلزال العربي، وثانياً، لأن إيران لا تزال تجاهر بعدائها الشديد للدولة العبرية، وتتبنّى رؤية تقوم على مبدأ تشجيع كل أشكال المقاومة لدولة الاحتلال.
قد يقول البعض إن تبنّي إيران لمشروع مقاومة إسرائيل بكل الوسائل، هو أمر يمكن تحميله على مبدأ الادعاء طالما أن هذا المشروع لم يتم اختياره حتى الآن، إلاّ من خلال ربط علاقة بين إيران وحزب الله. ولكن على الأقل فإن لدى إيران مشروع مقاومة بينما يفتقر العرب لأي مشروع من هذا النوع أو ينطوي على شبهة الاستعداد لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
الحديث عن المقاومة، وإسرائيل، والأولويات، سيظل نظرياً بالنسبة لكل القوى والدول المتصارعة العربية والإقليمية طالما لا تعثر على مؤشرات ملموسة، نحو تبني هذه الدولة أو تلك لأولوية القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال الإسرائيلي.
في الواقع فإن إيران قدمت تجربة عظيمة وناجحة في السياسة ويثبت الملالي أنهم أصحاب رؤية واستراتيجية تشكل مدرسة في السياسة، نتحسر نحن العرب، من أن أمتنا العربية تفتقد للاستفادة منها، وتعلم دروسها رغم أنهم يملكون ثروات هائلة ويفترض أنهم يملكون الحوافز الكافية، لأن يكونوا هم من سعى ويسعى نحو امتلاك قدرات نووية.
في ظل الحصار الشديد الذي فرضته الدول الغربية، والكثير من دول العالم على إيران، وهو حصار امتد لسنوات طويلة نجحت إيران في تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية، على نحو يدعو للإعجاب وكان الحصار حافزاً، لاستنفار الطاقة الذاتية للمجتمع الإيراني ما جعل إيران تواصل سياسة الندية والتحدي، والاستفادة القصوى من إصرارها على المضي في مشروع امتلاك الطاقة الذرية. كان على إيران خلال هذه الفترة الطويلة من الحصار أن تجد الوسيلة، لطمأنة جيرانها العرب، خصوصاً دول الخليج، من أن امتلاكها للقوة، لا يستهدف أمن واستقرار هذه الدول، وربما كان الطريق الأمثل لذلك، من خلال تركيز الأولوية في السياسة على الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي على نحو لا يتوقف على التنظير السياسي.
في مطلق الأحوال من غير المسموح أن يؤدي التوتر الجاري في العلاقات بين الدول العربية، خصوصاً الخليجية وبين إيران لأن تنحرف البوصلة نحو البحث عن خيار الاستقواء بإسرائيل لمواجهة ما يعتبره العرب التهديد الإيراني.
الحرص على أن لا تنحرف البوصلة نحو هذا الخيار الخطير ليست مسؤولية الطرف العربي، إذ إن إيران من موقع المقتدر يفترض أن تبادر لتصحيح المسار الخاطئ للعلاقات العربية الإيرانية. مرة أخرى بعد الألف، تأتي الأحداث والتطورات لتؤكد أن الصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي هو الأساس، وهو المصدر الحقيقي لقلق العرب وإيران، وتركيا وكل من له صلة بمصالح دول المنطقة والإقليم.
وإذا كان من الواجب تحذير العرب أو بعضهم من حرف البوصلة نحو الاستقواء بالدولة العبرية، فإن الواجب أيضاً يقتضي تحذير إيران من أن تنحرف بوصلتها السياسية باتجاه الولايات المتحدة وحلفائها، أو الدخول معها في محاصصة التنافس على المصالح في المنطقة العربية وعلى حسابها.
ثمة أشكال عديدة ووسائل لتحقيق مصالح واستقرار الدول لكن أشدها خطورة، وأكثرها كلفة، تغليب الصراع المسلح والحروب وإذا كان على العرب أن يسلموا بمصالح للآخرين، يصل الأمر إلى حد التسليم بمعظم المصالح للولايات المتحدة، فلماذا لا يسلمون بمصالح لإيران، وأن يتوجهوا نحو مساومة مرضية عبر الحوار، ستكون نتائجها في كل الأحوال لمصلحة إيران والعرب وعلى حساب مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل؟
طلال عوكل
2016-01-18