هذه الدولة الأصولية هي ظرف طارئ في التاريخ الإيراني، وإيران الشعب والحضارة والتاريخ، أكبر من استثنائية الفترة التي يضع فيها رجال الدين كل مقومات الدولة والشعب كمادة استعمالية لمشروعهم الأممي التوسعي.
تمتد الجغرافيا الإيرانية الغربية على طول الحدود الشرقية للعالم العربي كله: الخليج العربي – بدوله: دول مجلس التعاون -: (1880 كم)، والعراق: (1458 كم). أي أن العالم العربي (دول الخليج والعراق تحديدا) تتقاسم الحدود البرية والبحرية مع إيران على مسافة تتجاوز 3338 كم، بكل تضاريسها المتنوعة، وبكل مشكلاتها الحدودية الحقيقية والمفتعلة، وبكل تعقيداتها، حيث التداخل التاريخي والعرقي والديني والمذهبي، المثري، والمثير للمشكلات في آن.
ماذا تعني 3338 كم من الحدود؟. هل تأملنا جيدا في هذا الرقم؟. لو قسمنا هذا الرقم على عشرة، لكنا أمام حدود لعشر دول، كل دولة بحدود 338 كم. مَن ينظر إلى الخريطة ولو بنظرة خاطفة؛ يدرك مركزية الجغرافيا هنا، ويعي استحالة الفصل بين عالمين يتجاوران على كل هذه المسافة الهائلة، كما سيعي – في الوقت نفسه – أن المجاورة على امتداد كل هذه المسافة، بكل ما فيها من تعقيدات، يستحيل أن تبقى دون مشكلات ومناكفات تنافسية، يبعثها الصراع الضمني – قبل الصريح - على حدود مشتركة، قبل أن تفرضها بين الحين والآخر تقلبات السياسة على ضفتي هذا الخط الفاصل حدوديا بين عالمين متداخلين أرضا وشعبا وديانة وتاريخا، بكل ما يتواشج مع ذلك من حقائق وأوهام.
ثم إن المسألة ليست حدودا تمتد لمسافة 3338 كم في الأفق الجغرافي فحسب، بل هي حدود مُتموّجة تضرب في عمق التاريخ بكل نزاعاته واضطراباته؛ ما يعزز الطابع النزاعي/الصراعي مع هذا الجار الأزلي. فإيران، كما هي حاضرة الآن بكل صخبها وشغبها و..إلخ، كانت حاضرة على امتداد التاريخ بحضارتها، كما بشغبها المعهود، الذي لا شك أنه لم يكن بهذا المستوى المزعج الذي وصل إليه بعدما حكم الأصوليون إيران.
أيضا، ليست إيران/ التي نتقاسم معها حتمية الجوار، دولة صغيرة ولا هامشية بمعيار دول المنطقة، بحيث نستطيع تجاهلها، أو تستطيع هي تجاهلنا. هي دولة كبيرة بسكانها، فعدد سكانها ناهز الثمانين مليون نسمة، وهي كبيرة باقتصادها، إذ تمتلك ثاني أكبر احتياطي من الغاز، ورابع أكبر احتياطي من النفط..إلخ، ومهمة بموقعها الاستراتيجي الاستثنائي الذي يتحكم في كثير من خطوط الالتقاء بين دول العالم القديم (مثلا، إيران هي الفصل/ الوصل البري بين باكستان في الجنوب وتركيا في الشمال)، إضافة إلى ثقلها الديني كإحدى الدول المهمة في خريطة العالم الإسلامي قديما وحديثا، تراثا ومعاصرة، في التاريخ وفي الراهن.
والأهم من كل ذلك، هو أن هذه الدولة المجاورة ستبقى – بكل ما فيها من إيجابيات وسلبيات، بكل ما فيها من عبث، ومن مشكلات، ومن إزعاج – مجاورة لنا إلى الأبد، كما كانت مجاورة لنا منذ الأزل.
علينا وعلى إيران، أن نستوعب وأن تستوعب، حقيقة واضحة مفادها: نحن لن نرحل، وهي لن ترحل، لن تستطيع أن تطردنا، ولن نستطيع أن نطردها. ومهما أزعجتنا، ومهما رددنا عليها، ومهما وصلت درجة حِدّية المواجهة بيننا، حتى لو وصلت إلى أقصى مداها في حرب مسلحة، سنبقى نحن في ذات المكان، وستبقي هي في ذات المكان، جِوارا مكتوبا علينا وعليهم، لا نستطيع الخلاص منه، ولا يستطيعون، ولا مفر من التعامل معه وفق ظروفه، إما بالمواجهة – بأنواعها -، وإما بالتعايش السلمي الذي يعزز فرص الازدهار هنا وهناك.
علينا أن نتعامل مع حقيقة أن إيران هي قدرنا، ونحن قدرها، علينا أن نتجاوز الظرفية الصراعية الآنية، وذلك بأن ندرك أن إيران الحضارة والتاريخ ليست هي (حكومة رجال الدين)، ليست إيران هي دولة الملالي، ليست إيران هي هذه الدولة الأصولية التي تتعامل مع الداخل ومع الخارج بالمنطق الأصولي صراحة أو ضمنا.
هذه الدولة الأصولية هي ظرف طارئ في التاريخ الإيراني، وإيران الشعب والحضارة والتاريخ، أكبر من استثنائية الفترة التي يضع فيها رجال الدين كل مقومات الدولة والشعب كمادة استعمالية لمشروعهم الأممي التوسعي.
عندما نُميّز بين الأصل الثابت والاستثناء، عندما ندرك أبدية إيران الشعب والحضارة؛ كمجاور لنا، وندرك – في الوقت نفسه - ظرفية/ استثنائية هيمنة رجال الدين على إيران؛ نستطيع أن نحدد النقاط التي يجب أن تنصب عليها مواجهتنا للأخطار المترتبة على سياسة رجال الدين الطامحين إلى توسع أممي، كما هي حال رجال الدين الأصوليين في كل مذهب، وفي كل مكان. فليست المشكلة الإيرانية مشكلة استثنائية، أي ليست مشكلة الإيرانيين أنهم إيرانيون سيئون، بل مشكلة الإيرانيين كشعب، ومشكلة إيران كوطن، أن رجال الدين وصلوا إلى الحكم فيها، بينما فشلوا في بقية الأقطار الإسلامية. وللحقيقة، فأي بلد يصل فيه الأصوليون إلى الحكم، لن يكون أقل سوءا في تعاطيه مع قضايا الداخل والخارج من إيران؛ لأن منطق الأصوليين في الحكم (وهو المنطق التراثي القروسطي) يتعارض ضديا مع منطق الدولة الحديثة. وحتى إن بدا أنه يتماشى معه في الظاهر، فهو ليس إلا نزولا ظرفيا على حكم حالة الاضطرار.
نجاحنا في مواجهة الخطر الإيراني ( وهو خطر النظام الأصولي الإيراني تحديدا) لا يتحدد في نجاحنا في التصدي للمشروع التوسعي لسلطة رجال الدين فحسب، بل يكون - أيضا - بفرض إرادة التعايش، وتصعيدها لتكون هي إرادة الجميع، المهيمنة على الجميع. فما سيكسبه الطرفان (إيران الشعب، والشعوب العربية المجاورة لإيران)، في حال فرض إرادة التعايش، وسيادة مبدأ التبادل الثقافي والاقتصادي، بل والتحالف ضد الأخطار المشتركة، ليس شيئا هينا ولا هامشيا لأي طرف، بل هو ضمانة حقيقية لأمن وازدهار المنطقة كلها، وتأسيس واعٍ لمستقبل واعدٍ للأجيال التي سترث واقعنا بكل ما اجترحنا فيه.
إن النجاح في التأسيس لواقع آمن تسود فيه روح التوافق والتعايش والتعاون هو النجاح الحقيقي في المواجهة، إذ المواجهة ليست مواجهة الآخر بما هو آخر، بل مواجهته بنزع العناصر السلبية التي يشتغل عليها في الموضوع الواقعي؛ حتى لا يكون ثمة مجال، لا له، ولا لغيره، لبعث الصراع المدمر من جديد.
لكن، هذه المواجهة التي ندعمها، وهي التي تطمح إلى ما وراء الصراع، حيث التأسيس لمبدأ التعايش السلمي التنافعي في الواقع، لن يكون ممكنا بدون فهم متبادل، فهم شامل وعميق لكلّ من مكونات الآخر، لا أن يبقى هذا الآخر الذي نعده عدوا، أو منافسا، أو حليفا..إلخ مجهولا لنا، لا نعلم عنه إلا ما نتوهمه فيه، جراء تسليمنا بكل ما يرد إلينا عبر وسائل بحثية/ معرفية ناقصة ومغلوطة، نبني عليها نتائج قد تقودنا إلى كوارث في تحديد خياراتنا التي نرتهن إليها واقعنا ومستقبلنا في كثير من الأحيان.
لهذا، نقول متسائلين: إذا كانت إيران جارا أبديا لنا، سواء أمسك بزمامها رجال متطرفون أو رجال معتدلون، محاربون لنا أو متحالفون معنا، فأين هي المراكز البحثية المعنية بتتبع الشأن الإيراني، بحثا ودراسة وترجمة..إلخ؟
أين هم المتخصصون في الدراسات الفارسية في جامعاتنا، الذين بإمكانهم رصد إيران من الداخل بكل ما تموج به من تنوع ثقافي واجتماعي وسياسي؟ كيف سنواجه إيران مواجهة صراع/ حرب أو مواجهة تعايش، ونحن لا نعرف عن إيران إلا أقل القليل؟ كيف يُطلب من المثقفين والمفكرين الوقوف مع خط المواجهة مع النظام الإيراني، وما تحت أيديهم من الدراسات المتوفرة لا يفي بأبجديات البحث في الموضوع؟
إنني إذ أتساءل هنا، فإنما أتساءل عن تجربة شخصية. ففي أوائل العام الميلادي المنصرم كتبت عن إيران 25 مقالا على مدى ستة أشهر متواصلة، كان التركيز فيها على إشكالية الحكم الديني في إيران. ومن قبل، كتبت على فترات متقاطعة 17 مقالا عن طبيعة السياسة الإيرانية ودورها في تفاقم مشكلات الداخل الإيراني، وما ينتج عن ذلك من تصدير المشكلات للخارج.
وفي كل الأحوال، واجهت أهم مشكلة، وهي نقص المصادر البحثية المعتمدة، أو الجديرة بالاعتماد، فكل ما استطعت توفيره آنذاك لا يتعدى 45 كتابا (عن إيران كدولة/ نظام تحديدا، دون الكتب الفكرية)، على ما في أكثرها من أخطاء علمية وتوثيقية فادحة، يكتشفها القارئ بالمقارنة بداهة.
ولهذا، أحسست من تلك اللحظة أن فهم إيران يحتاج مراكز بحثية مدعومة بقوة من الحكومات العربية، مراكز تُعنى بترجمة آلاف الكتب في شتى المجالات؛ ليكون العالم الإيراني تحت الرصد العلمي الموثق، فلا يفلت كتاب/ دراسة/ بحث مهم يصدر في إيران أو عن إيران من الترجمة والدراسة والنقد والتحليل.
أيا كانت طبيعة علاقتنا مع إيران، نحن – في كل الأحوال - محتاجون إلى فهم إيران أولا. وعلى دول الخليج والعراق تحديدا، مسؤولية التأسيس لمراكز بحثية، وفتح أقسام علمية في الجامعات الكبرى، تصنع متخصصين في هذا المضمار، يتوارثون المعرفة التخصصية على مدى أجيال.
نريد أن نقرأ كل ما كتب ويكتب عن السياسة الإيرانية، وعن المجتمع الإيراني، وعن الثقافة الإيرانية، وعن الأدب الإيراني.. إلخ، نريد أن نعرف واقعهم بكل تفاصيله الدقيقة (فالفهم الصحيح شرط نجاح المواجهة/ التعايش).
ليس من المعقول أن نعتمد في هذا المضمار على الباحثين الهُواة الذين يظهرون في سياق الحاجات الظرفية، وكأن إيران مجرد قطار توقف على شاطئ الخليج، فبقي فترة يشاغبنا ويزعجنا، بينما هو مستعد في أقرب فرصة للانطلاق.
وإذا كان الحديث هنا عن إيران؛ لأننا نخوض غمار مواجهة معها، فهو حديث في عمومه يتجاوز إيران؛ لينسحب على كل دولة مؤثرة، أو يتوقع أن تكون مؤثرة في المستقبل.
لدينا الصين مثلا، وهي الدولة التي يُتوقع أن تكون الأولى أو الثانية في النصف الثاني من هذا القرن الميلادي. أين هي المراكز المعنية بها في شتى الحقول المعرفية؟
ألا يستحق الأمر الاهتمام من الآن، ولو بفتح عشرة أقسام للدراسات الصينية في بعض جامعات الخليج التي تمور بآلاف الخريجين، بحيث نتوفر على دارسين ومترجمين متخصصين في هذا المجال، يُترجمون المواقع، ويُصدرون الكتب والمجلات الدورية والبرامج التوثيقية التي تُعيننا على فهم العالم من حولنا، وهو العالم الذين ستحتل الصين فيه عما قريب مكاناً لا يمكن تجاهله بأي حال من الأحوال؟
بقلم/ محمد علي المحمود