بعد خمس سنوات على ما كان يؤمَل أن يكون ربيعا عربيا، تبرز قضايا تدفعنا لاستحضار كل ما جرى، سواء من جهة دور الغرب وخصوصا واشنطن فيما يجري أو من جهة طبيعة الصراع الدائر وأهدافه وأطرافه، حيث نلاحظ أن الغرب – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- يقود ويرعى جميع جلسات الحوار بين الفرقاء المتقاتلين سواء في سوريا أو اليمن أو ليبيا أو العراق، وهذا الغرب نفسه هو الذي يُمَول جماعات مسلحة متقاتلة ويشكل أحلافا عسكرية لنصرة طرف على طرف آخر.
دون أن نفقد الأمل بالمستقبل وبالأجيال الشابة وبعدالة ومشروعية وجود مشروع قومي عربي يجمع شمل أمة تعدادها حوالي 400 مليون عربي، فإن شواهد كثيرة مقلقة على أن العرب يفقدون القدرة ليس فقط على مستوى حل مشاكلهم الداخلية وبل وعلى مستوى إدارتها، ويسلمون زمام أمرهم للغرب وروسيا لتحل مشاكلهم، مما يمنح مصداقية للتحليلات التي تقول بأن ما يجري ليس ربيعا عربيا بل (الفوضى الخلاقة) الأمريكية التي تهدف لتفكيك العالم العربي وإعادة بنائه مجددا بما يخدم مصالح الغرب وخصوصا واشنطن. ويمكن القول أيضا بدون مبالغة وبالشواهد التاريخية والأرقام والإحصائيات إن إسرائيل وواشنطن تعيشان عصرهما الذهبي في منطقة الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية على وجه الخصوص ، حيث الحضور العسكري والسياسي للغرب وعلى رأسه واشنطن أصبح أكثر حضورا وأكثر تحكما في مفاصل المنطقة العربية.
الجرح الأكثر إيلاما اليوم في الجسد العربي هو ما يجري في سوريا، فما يجري في هذا البلد العربي العريق يلخص كل تعقيدات وتشابكات المصالح والأيديولوجيات، ومع أن ما يجري في سوريا ينتمي، من حيث توقيت تفجر الأحداث والأطراف المعارضة الفاعلة، للمشهد العام لما يسمى بالربيع العربي، إلا أنه أكثر تعقيدا من جانب وأكثر كشفا لحقيقة ما يجري في المنطقة من جانب آخر.
في سوريا اليوم حالة غريبة وتحالفات غير مقدسة وعصيِّة عن الفهم العقلاني الذي يضع أو يُحيل ما يجري إلى معادلة ثورة شعبية في مواجهة نظام دكتاتوري. نقول تحالفات غير مقدسة لأنها تعبر عن تقاطع مصالح أطراف خارجية يسعى كل منها لمصلحته الخاصة دون أي اعتبار للسلام العالمي أو لمصلحة الشعب السوري والذي سيكون الخاسر الأكبر بعد انقشاع غبار المعارك.
من حق الشعب السوري الأبي أن يعيش في ظل الديمقراطية وأن يضع حدا لحكم العائلة والحزب الواحد وسيطرة طائفة على غيرها من الطوائف، ولكن ما يجري في سوريا لا علاقة له بالنضال الديمقراطي، وفي رأينا ليس صراعا بين سنة وشيعة كما يحاول أن يروج البعض أو يوظف البعض هذا البعد المذهبي، فلم يكن قبل اندلاع الأحداث في سوريا ما يدل على أن النظام السوري يتصرف بدوافع دينية مذهبية بل كانت تهمته أنه نظام قومي عربي علماني. ما يجري في سوريا يتطلب مقاربة الأمر ضمن رؤية إستراتيجية بعيدا عن الشعارات والأهداف المُعلَنة لأطراف المتصارعة .
ما يجري من حرب في وعلى سوريا يجعلنا نستحضر ما جرى مع العراق ، حيث تم توجيه الاتهامات لصدام حسين بالدكتاتورية ودعم الإرهاب وحيازة أسلحة دمار شامل وهي نفس الاتهامات التي توجه اليوم للنظام السوري، بالرغم من أن نظام صدام كان متهما بأنه يمثل السنة ونظام الأسد اليوم متهما بأنه نظاما شيعيا ويمثل الشيعة!، وقد رأينا انكشاف زيف كل التهم الموجهة لصدام حسين سواء من حيث علاقته بالقاعدة ودعم الإرهاب أو اتهامه بامتلاك أسلحة دمار شامل .
للمفارقة ومما يثير أكثر من سؤال، مثلا أن اختلاف المرجعية المذهبية للنظامين لم يمنع من أن نفس الأطراف العربية والدولية تقريبا التي حاربت نظام صدام (السني) تحارب اليوم نظام الأسد ،الشيعي)! أيضا أنه عندما اكتشف الغرب أن إيران تملك التكنولوجيا النووية وربما تتهيأ لصناعة قنبلة نووية استعمل الغرب معها سياسة النفس الطويل، صحيح أنه فرض عليها عقوبات، ولكن لم يحشد ضدها الجيوش ولم يتم قصفها كما جرى مع العراق، بل دخل الغرب معها بمفاوضات استمرت لسنوات تُوِجت بالتوصل لحل مُتَفق عليه يحفظ مصالح الطرفين.
في سوريا تتحالف وتتقاطع عدة أطراف لقتال الدولة والنظام السوري: إسرائيل، جماعة النصرة (تنظيم القاعدة)، الإخوان المسلمين، حركة حماس، قطر ودول الخليج، واشنطن والدول الغربية،تركيا، الخ . فما الذي يجمع هؤلاء ؟ وما أهدافهم المشتركة؟ وفي حالة سقوط نظام الأسد فما هو القاسم المشترك الذي سيوحد هؤلاء حول النظام الجديد بعد الأسد؟.
ما يجري في سوريا عزز الطائفية والمذهبية وكل انتماءات ونزعات ما قبل الدولة، وبدد الثروات العربية ،وفتت وحدة الدولة و المجتمع السوري وباتت سوريا معرضة للتقسيم. الأخطر من ذلك أن الشعوب العربية التي لم تقم بالثورة في بلدانها باتت مترددة في خوض تجربة الثورة على أنظمتها ،وهذا لعمري سبب مُفَسِر – بالإضافة للأسباب الأخرى- للتدخل الفج من الأنظمة العربية في مجريات الثورة السورية أو تحويلها إلى حرب أهلية دامية ،لتقول لشعوبها :أنظروا إلى ماذا تؤدي الثورة على النظام ؟ .
كان الحديث في بداية الحراك الشعبي العربي أن هدف الثورات العربية إسقاط أنظمة دكتاتورية واستبدادية فاسدة لا تؤمن بالديمقراطية، فهل التحالفات غير المقدس التي تقاتل في سوريا تؤمن بالديمقراطية والحرية وتريد تأسيس نظام ديمقراطي ؟ الأنظمة العربية التي تحارب النظام السوري على درجة من الديمقراطية بحيث لا تقبل أن تتعايش مع أنظمة عربية غير ديمقراطية كنظام بشار الأسد ؟ هل تنظيم داعش يقاتل في سوريا ويجمع عناصره من كل دول العالم مخترقين الحدود بتواطؤ وبتمويل من دول عربية وغير عربية ،لأنه تنظيم ديمقراطي وديمقراطيته تجعله يرفض الصمت على وجود نظام غير ديمقراطي في سوريا؟ هل إسرائيل وواشنطن والغرب عموما يستفزهم غياب الديمقراطية في سوريا ودكتاتورية الأسد فقرروا مساعدة الشعب السوري المغلوب على أمره لإسقاط الاستبداد وتأسيس نظام ديمقراطي في سوريا ؟ ألم يكن الغرب حليف مبارك وزين العابدين طوال عقود من حكمهم الاستبدادي ؟ وهل الديمقراطية غائبة في سوريا وحاضرة في غيرها من الدول العربية الحليفة لواشنطن والغرب التي لم تصلها رياح الثورة ؟ وهل تحقيق الديمقراطية يجب أن يمر من خلال تدمير سوريا الدولة والمجتمع والتاريخ؟.
قد يقول قائل إن الأمر لا يتعلق بالديمقراطية فقط، بل له علاقة أيضا بالدفاع عن الإسلام في مواجهة نظام علماني،وأن جماعات الإسلام السياسي تقاتل من اجل سوريا مسلمة أو تحكمها الشريعة!. مع أن القائلين بهذه التهمة يدخلون بتناقض مع ذاتهم عندما يضفون بعدا مذهبيا على الصراع زاعمين انه قتال أهل السنة ضد مشروع شيعي أطرافه إيران والنظامين السوري والعراق وحزب الله ،ومع ذلك دعونا نتساءل عن أي إسلام وشريعة يتحدثون؟ هل يريدون سوريا مسلمة على طريقة حكم طالبان وتعاليم تنظيمي القاعدة وداعش ؟ أم يريدون سوريا مسلمة على الطريقة الخليجية ؟ وهل حكم الدين والشريعة مطبق في كل العالم العربي والإسلامي ولم يتبق خارج الأسلمة إلا سوريا ؟.وهل التدخل الأمريكي والغربي في مجرى الأحداث في سوريا يدخل في سياق السعي لأسلمة الدولة السورية وبالتالي فإن وقوف واشنطن والغرب مع المعارضة السورية تعتبر وقفة في سبيل الله كما يقول ويدعو القرضاوي ؟.
في الفترة الأخيرة أخذت بعض التحليلات تتحدث عن آبار وأنابيب النفط والغاز كسبب كامن وراء الصراع في وحول سوريا وفي دول الربيع العربي، ولكن هذا سبب قاصر لوحده عن تفسير ما جري ويجري في تونس ومصر واليمن . وإن كانت المعركة تدور بالفعل حول النفط فعلى الأطراف العربية المشاركة في فوضى الربيع العربي وخصوصا دول الخليج أن تعترف بأنه قد غُرِر بها وأنها خسرت المعركة بعد أن وصل سعر النفط للحضيض – أقل من 30 دولار للبرميل- وأنها خسرت مدخراتها القومية التي جمعتها من أموال النفط.
وننهي بالقول،إن كان الصراع بين الدكتاتورية و الديمقراطية ليس سببا مفسرا للصراع ، وإن كان الصراع الديني والمذهبي لا يفسر أيضا الصراع ، وإن كان الصراع حول آبار وأنابيب النفط لا يكفي لوحده لتفسير ما يجري ، فهل الأمر متعلق بهذه الأسباب مجتمعة؟ أم هناك أسباب أخرى قد تكشفها السنوات القادمة ؟.
بقلم/ د. إبراهيم أبراش