في الذكرى الثامنة لرحيل القائد د.جورج حبش

بقلم: هيلدا حبش

تحل الذكرى الثامنة على رحيل الحكيم ، فقيدنا الغالي وفقيد الأمة العربية ورفيق درب النضال الشاق، و نحن نعيش أحداثا جساما تهدد كياننا ووجودنا كأمة عربية، وشعب عريق بحضارته وتاريخه المجيد ومكانته بين الأمم.
     إن الهجمة الشرسة التي تجتاح وطننا العربي من قبل أعتى القوى المعادية للانسانية لم يسبق لها مثيل بوحشيتها وهمجيتها وافكارها الظلامية المدمرة وما خلفته من قتل ودمار للبشر والحجر، ولكل ما يمت للحياة الآدمية بصلة، وحولت بلادنا الى ساحات صراع على النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية وحقل تجارب لجميع أنواع الاسلحة الفتاكة التي فتكت بأطفالنا ونسائنا وشبابنا وهجرت الملايين منهم في شتى أصقاع الارض يعانون قسوة التشرد والفقر والمرض والبطالة وقسوة الموت برداً وجوعاً وغرقاً. لكن شعبنا سينهض من بين الركام كطائر الفينيق معلنا رفضه للظلم والذل والهوان ومطالبا بحريته واستقلاله فوق ترابه الوطني.
تتزامن هذه الذكرى الأليمة مع اندلاع "الانتفاضة المجيدة" في شتى أرجاء الوطن المحتل. غليان شعبي وثورة على الظلم والقهر وانسداد الأفق في وجه شبابنا وشاباتنا الذين يفجرون غضبهم ويطلقون صرخة مدوية في وجه المجتمع الدولي المنحاز لأاسرائيل واستقرارها وأمنها وسلامتها على حساب مستقبل شعوبنا.
 إن التصريحات المستفزة للقيادة الفلسطينية بأنها لا تريد العنف ولا التصعيد، وتعتبر اتفاقيات أوسلو المذلة والمجحفة انجازاً لا تنازل عنه وتعمل جاهدة لإجهاض الانتفاضة المجيدة والالتفاف عليها لكبح جماح الشباب الثائر على الظلم والطغيان وعلى الأوضاع المزرية التي أوصلتنا إليها سياسة التنازلات المجانية والتنسيق الأمني مع اسرائيل، إن ما تعتبره السلطة الفلسطينية إنجازاً هو لعنة حلت على شعبنا قتلاً واعدامات ميدانية واعتقالات وتعذيبا وجرحى وإعاقات ومصادرة ما تبقى من الاراضي الفلسطينية واقامة مئات الآلاف من الوحدات الاستيطانية وجدار الفصل العنصري وحواجز عسكرية وطرق التفافية ومدن محاصرة.
إن ما تمارسه اسرائيل من قمع وانتهاكات وعربدة هو الارهاب بذاته ارهاب دولة تدعي الديمقراطية امام العالم الذي يقف موقف المتفرج على المجازر اليومية في فلسطين. وهذا ما يجعل خيرة شبابنا ونسائنا وأطفالنا وهم في عمر الورود يزهدون بالحياة ويندفعون بكل ايمان وثبات وبعزيمة حديدية يفجرون غضبهم كالبركان في وجه جنود الاحتلال المدجًجين بالسلاح ويمرغون هيبة المؤسسة العسكرية الاسرائيلية بكل جبروتها بالتراب، وهم يتلقون الرصاص الحي بصدور عارية. لقد اذهلوا العالم بتصميمهم على مقاومة العدو واندفاعهم نحو موت محقق في سبيل الخلاص من هذا الطاغوت الجاثم فوق صدورهم. إنهم طيور الجنة وشموع تحترق لتضيء للاجيال القادمة درب الحرية والاستقلال.
 وبهذه المناسبة أدعو القيادة الفلسطينية ومعها جميع الفصائل ان يشكلوا قيادة وطنية موحدة للانتفاضة تتخذ موقفاً تاريخياً وتعمل على حماية الشعب وتعيش هموم الناس وقضاياهم العادلة، وان تعمل السلطة الوطنية على وقف التنسيق الأمني وكل الاتفاقيات التي تطبق من جانب واحد وتعمل على مساندة الانتفاضة واستمرارها وتجذيرها ومدها مادياً ومعنوياً وعسكرياً، لتكون هذه القيادة على مستوى طموحات وتطلعات شعبنا وتضحياته الجسيمة.
 تعود بي الذاكرة الى العام 1987 عندما اندلعت انتفاضة اطفال الحجارة السلمية والعفوية وهزت المجتمع الدولي حيث وقف العالم مذهولاً أمام تلك الظاهرة، وماأزال أذكر كيف أن الحكيم تفرغ تماماً في ذلك الحين لمساندة أبطال الانتفاضة وكان على اتصال مباشر ويومي بالقيادة الموحدة للانتفاضة التي تشكلت من كافة التنظيمات الفلسطينية ، ورفع شعار لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة. كان يتبادل الرسائل مع قيادة الداخل ويتابع كافة التفاصيل باهتمام بالغ، واعتبرها خطوة جبارة نحو انتقال ثقل المقاومة الى داخل فلسطين المحتلة. وكان التعاون و التنسيق الأمني على أشده مع الشهيد القائد ابو جهاد رحمه الله، ومع العديد من القيادات الميدانية الوفية لشعبها ولقضاياه العادلة. تعود بي الذاكرة الى خطاب الحكيم التاريخي الذي ألقاه في مخيم اليرموك بمناسبة الذكرى الاولى للانتفاضة المجيدة عام 1988 قائلا:
نلتقي اليوم بمناسبة مرور عام كامل على انتفاضة شعبنا المجيدة. وبما أننا في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نشكل فصيلاً أساسياً في القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، أعلن لجماهيرنا العربية أن الجبهة ستبقى تعمل لاستمرار الانتفاضة لتجذير الانتفاضة ولتصعيد الانتفاضة وامتدادها حتى تأتي بكافة نتائجها الفلسطينية والعربية والدولية وتحقق شعارها السياسي الذي رفعته وسالت الدماء من أجله ، شعار الحرية والاستقلال.
وبصفتي أميناً عاماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين فإن من واجبي أيضاً ان أعلن للجماهير الفلسطينية في كل مكان ولكل الجماهير العربية باسم الجبهة الشعبية ومكتبها السياسي ولجنتها المركزية ومقاتليها وقواعدها أن الجبهة ستبقى مخلصة ووفية للرؤية السياسية التي طرحتها وللخط السياسي الذي تمثله وللمفاصل الرئيسية في هذه الرؤية وعلى رأسها فهم الجبهة لحقيقة الكيان الصهيوني باعتبارها ظاهرة استعمارية سنبقى نقاتلها عاماَ بعد عام عقداً بعد عقد ... جيلاً بعد جيل ... حتى نطهر الارض الفلسطينية وكامل الاراضي العربية من رجس الاحتلال .
إن انتفاضة جماهيرنا في فلسطين تحمل مضامين كبيرة ومعاني كثيرة، اسمحوا لي أن أتحدث بشكل مكثف ومختصر حول المضامين والمعاني الكبيرة التي تمثلها انتفاضة أهلنا في الارض . إن الانتفاضة الشعبية تمثل مرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني من الممكن أن تؤسس لمرحلة جديدة من النضال العربي برمته.
نحن الآن نعيش وللمرة الاولى منذ عام 1948 ولا حاجة لأن استعرض معكم مسيرة النضال الوطني الفلسطيني منذ الخمسينيات وحتى الآن. ولكني أكرر أنه وللمرة الاولى، فإن جماهيرنا في الاراضي المحتلة والتي تشكل 40 % من جماهير شعبنا الفلسطيني هي التي تتحدى وتحتل مكان الصدارة في مواجهة مشروع الكيان الصهيوني. هذه سمة أولى جديدة.
السمة الثانية؛ لقد كان الصراع الفلسطيني ضد المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من الصراع العربي الصهيوني. أي أن المظهر الرئيسي للصراع صراع عربي صهيوني يحتل فيه الصراع الفلسطيني الصهيوني هامشاً معيناً. الآن وللمرة الاولى منذ أربعين عاماً على هذا الصراع يظهر الوجه الفلسطيني ليقول أنا محور وجوهر هذا الصراع وسأبقى كذلك دون أن يعني ذلك المساس بأي شكل من الاشكال بفهمنا لقومية المعركة، وإنما أصبحت قومية المعركة تدور الان حول المحور الاساسي محور الصراع الفلسطيني الصهيوني.
السمة الثالثة؛ لهذه المرحلة هي دور الجماهير في صنع التاريخ، امكانياتها، قدراتها، إبداعاتها وعبقريتها. نحن نعيش الآن فترة من تلك الفترات التاريخية التي تجسد بشكل واضح وملموس ما يعنيه ذلك؛ لقد وقفت الجماهير الفلسطينية بعد عام 1982 بشكل خاص وراجعت مسيرة النضال الطويلة راجعت نتائج الحروب العربية ضد اسرائيل، راجعت نتائج حرب تشرين 1973 وانحراف السادات في طريق كامب ديفيد والمأزق الذي بدأت تعيشه البندقية الفلسطينية في الساحة اللبنانية، وتساءلت ماذا عن كل التضحيات  - ماذا عن الامل – ماذا عن الحقوق الوطنية المشروعة.
وبالتالي تسلحت بالحجر، بالمولوتوف، بالسكاكين، ضد المحتل ... لتثبت أن حقها باقٍ وستدافع عنه بكل الوسائل الممكنة حتى يتحقق النصر.
 السمة الرابعة قد ظهرت في الاشهر الاولى للانتفاضة حيث تبلورت مجموعة القيم الاخلاقية، تلك القيم المتمثلة بالاعتماد على النفس والتضامن والتكافل الاسري واستسخاف نمط الحياة الاستهلاكي والتركيز على الاقتصاد البيتي، مقاطعة البضائع الاسرائيلية؛ هذه هي الانتفاضة، وفي هذه الحالة فقط يمكن أن نعرف ماذا تعنيه لنا تاريخياً ونعرف كيف نستثمرها فلسطينياً وعربياً.
تجذير الانتفاضة أعني أن يصبح لها جذور عميقة في الارض بحيث تخبو آمال رابين وشامير في اخمادها وتصبح عملية القضاء عليها معادلة للقضاء على الشعب الفلسطيني بأسره.
إن تجذير الانتفاضة يعني أيضاً الوقوف امام القيادة الموحدة، اللجان الشعبية اللجان الضاربة لجان الاغاثة، الوقوف امام موضوعة وحدة كافة الاتحادات والنقابات والمؤسسات الوطنية. ما نقصده بتجذير الانتفاضة إيجاد القاعدة التنظيمية الصلبة الموحدة التي تضمن استمرار الانتفاضة. اننا في الجبهة الشعبية حريصون على الانتفاضة وانتصاراتها. وهنا يجب ان نوجه الدعوة باستمرار لحماس سواء تجاوبت معها أم لا لتعمل في اطار القيادة الوطنية الموحدة. واذا كان ذلك غير ممكن فعلى الاقل قيام مستوى معين من التنسيق بينهما يضمن الاتفاق حول البرامج النضالية اليومية التي تطرح للجماهير يجب بذل كل جهد مستطاع لتتوحد كل الجهود الفلسطينية في مقاومة الاحتلال بعيداً عن النزاعات والصراعات والخلافات التنظيمية.
إن دماء اهلنا التي سالت في الارض المحتلة تفرض علينا  أن نفكر بمسؤولية وجدية، تفرض علينا أن نستنفر كل طاقاتنا وأمكانياتنا، أن نكون صادقين واضحين  في كل كلمة نقول، وأن نسد كل فجوة ما بين القول والممارسة؛ فأهلنا وأطفالنا يستحقون منا هذا الشعور العميق بالمسؤولية.

هيلدا حبش

أرملة جورج حبش