ليس هنالك أدنى شك من أن خيانة الأمانة هي جريمة كبيرة، وكلما كانت الأمانة أكبر كلما كان الشخص أكثر حرصاً ودقة في ممارسة إدارتها، ومن لا يستطيع تحملها عليه الهروب منها كهروبه من الأسد.
لم يعد سراً حجم الفساد المستشري في البعض من المؤسسات الحكومية والخاصة والانجئوز، فقد تحول هذا لفساد يديره ويرعاه مسئولي ومتنفذي هذه المؤسسات والتي من أهم واجباتها خدمة شعبها ووطنها، ولم يعد غريباً أن نسمع ونقرأ عن مسؤول فاسد يتبجح بمحاربة الفساد والفاسدين في الوقت الذي تزداد ثروته دون معرفة مصدرها، ونزداد قهراً على ثروات وطننا التي يبددها اللصوص والمنحرفين والفاسدين على ملذاتهم وفي كازينوهات القمار، وإمعاناً بالوقاحة واللصوصية وكونهم محصنين من العقوبة، أصبح هؤلاء اللصوص يتفاخرون بحجم ثرواتهم الهائلة في مجتمع يعيش غالبية مواطنيه في فقر مدقع وبطالة مقنعه وهبات ومنح من دول مانحة وشقيقة، في حين نقرأ عن أن اثرياء الغرب وهم يتنازلون عن جزء من ثرواتهم للمؤسسات الانسانية والخيرية والمجتمعية، ولم يعد المواطن الفلسطيني يستغرب عدم معاقبة هؤلاء الفاسدين واللصوص لأنه أصبح على قناعة تامة بأنهم جزء من منظومة فساد حولت البعض من أصحاب القرار والمتنفذين الى رؤساء شركات يقودوها بالسطو على ثروات هذا الوطن بصفقات مشبوهة يعود ريعها عليهم وعلى محاسيبهم وأفراد عصابتهم أو بامتلاكهم شركات بشكل غير مباشر من خلال واجهات ينفذون أوامرهم أو بحصول بعضهم على عمولات ضخمة نتيجة صفقات يتورطون فيها.
هؤلاء الأثرياء الجدد في الوطن الفلسطيني الذين تمتلكوا ونهبوا وسرقوا من خيرات وثروات الوطن، يتزايدون بشكل مضطرد وينهشون بجسدنا المنهك بكل الامراض الفتاكة، علاوه على الفساد والإنقسام والحصار والإحتلال والبطالة والفقر والجوع، حتى أصبح الانسان الفلسطيني غير قادر على المطالبة بحقوقه، والغالبية العظمى على امتداد وطننا تجاهد لتحصل على لقمة خبزها وتعمل بأقصى جهدها ليس لتعيش حياة كريمة ولتزداد ثروة هؤلاء الأثرياء.
لقد تكالب على الوطن حيتان وهوامير واسماك قرش الفساد من بعض الوزراء والساسة والمسئولين الكبار، فسرقوا ملايين الدولارات والدنانير والشواكل من ثروة شعبنا الفلسطيني، بعد أن وجدوا الفرصة سانحة لهم في غياب ضعف القانون وتراخيه، وظل هؤلاء الفاسدين والسارقين واللصوص يصولون ويجولون في بيئتهم الداخلية الخصبة، وينعمون بأموال شعبنا المسروقة منذ أعوام في دول أوربية وعربية يسخرونها لرفاهيتهم ولشراء العقارات والشركات دون أن يقول لهم أحد في هذه الدول التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة لانهيار السلطة الوطنية التي عبدت بالدم، من أين لك هذا؟ ولا حاجة لذكر هذه الأسماء التي تعرفها الجهات الحاكمة وقضاؤها وهيئة مكافحة الفساد.
بالأمس القريب وعبر وسائل الاعلام شاهدنا تصريح للرئيس الفلسطيني محمود عباس حيث ذكر إن لدى هيئة مكافحة الفساد 460 شكوى ضد الفساد، مؤكدًا إنه لا أحد فوق القانون، ومعربا عن أمله بالإسراع بتقديم أي شكوى ضد من يشعرون أنه يتلاعب بالأموال العامة، وأكد سيادته أن لا أحد فوق القانون وعلى كل من يرتكب شيئا بحق وطنه من جريمة أو جنحة أو غيرها أن يتحمل مسؤولية ذلك، قائلا بأننا مصممون على السير بهذا الخط إلى النهاية، معلنا في الوقت نفسه حربا على الفساد في دولة فلسطين، مؤكدا ان كل من ارتكب أخطاء يجب أن يحاسب وما في حد على رأسه ريشة، وكل شخص مسئول سيكون معرضا للمساءلة، موجهها تحذيرا لكل من حقق كسبا غير مشروع عبر استغلال السلطة بأنهم سيأخذون عقابهم، ولا يوجد أحد في رأس السلطة وحتى أصغر موظف لا يخضع للمساءلة والمحاسبة، فحديث الاخ الرئيس نأمل أن يتم تطبيقه على الجميع دون استثناء وهو في حقيقة الامر بادرة وفاتحة خير لمرحلة السنوات القادمة وقد تكون سكينا حادا في بطون المفسدين ونأمل ان الردع الحقيقي لهم يكون عاملا مهما للقضاء على هذا السرطان المستشري في فلسطين والذي يسمى (بالفساد).
إن الفساد له اثر كبير على بقاء وديمومة الوطن الفلسطيني، وهذا سر من اسرار فشل الحكومات المتعاقبة وقد أثبتت الدراسات التطبيقية تأثير الفساد على النمو الاقتصادي والميزانية العامة والفقر والبطالة وعدم المساواة في الدخل وتوفير الخدمات الاجتماعية، وما يتطلب لمعالجة هذه الظاهرة المستفحلة هو المزيد من الوقت، وهذا الامر لا يتم تطبيقه في فلسطين بفعل وجود اكثر من باب للفساد مع وجود فاسدين لا يتم احصاء عددهم بهذه السهولة، فمسؤلي ومتنفذي كبار في وزارات عده إتهموا بالفساد والسرقات، وهؤلاء لم يكونوا المسؤولي الوحيدين الفاسدين بل كان قبلهم اكثر من مسؤول، ومن المحتمل ان يدخل في قضايا السرقات والفساد اخرون بمراتب وزراء وسفراء ووكلاء ومدراء وحتى رؤساء مؤسسات اهلية وخيرية او ما يسمى "بالانجوز" قريبا.
إن الفساد غول لا يمكن قتله دون تعيين وتحديد واضح للفاسدين وكشف هوياتهم دون مواربة أو خداع للنفس والآخرين، ولن يقوم لوطننا قائمة ما دام هناك من يعجز عن تسمية الأشياء بأسمائها أو يتردد مذعورا وخائفا من الإشارة إلى حوامل داء الفساد، فإن الاكتفاء بتشخيص فضفاض للداء وعدم تشخيص الفاسدين وتسميتهم أمر يترك الباب مفتوحا للمناورة الكلامية والخلط ودخول الفاسدين أنفسهم في الثرثرة حول الفساد، فلقد حاول عدد كبير من رؤوس الفساد والتي استباحت الوطن الفلسطيني طوال السنوات الماضية، أن تغطّي على عار فسادها وفساد ابنائها، عبر ركوب موجة الوطنية وإدعاءات الدفاع عن الوطن والمقاومة، إدعاءات لا تنطلي إلا على السذّج، ولا تهدف إلا الى تحقيق مكاسب ومنافع سياسية، فمن سرق الملايين من اموال الشعب الفلسطيني ووزعها على أبنائه وصحبه عبر العقود الوهمية والشركات الورقية، هو آخر من يفكر بالدفاع عن الوطن، فأمثال هؤلاء الدجالين هم من اوصلوا الوطن الى ما وصلت اليه من تردّي ودمار وفساد، ولذا فلا يعقل أن هؤلاء المجرمين الذين خانوا الأمانة طوال سنوات حكمهم، أن يتحولوا بين ليلة وضحاها الى امناء مدافعين عن الوطن.
قانون من اين لك هذا؟ وهذا التساؤل موجه للذين كانوا حتى وقت قريب حفاة عراة لا يملكون ما يسد الرمق، وحين تنسموا المناصب والمراكز في الزمن اللعين حتى اصبحوا من ذوي الملايين بل المليارات وصار لهم شأن، وأصبح هوامير وحيتان كبيرة لهم مراكز مرموقة اجتماعية ومالية في الحكومة او في القطاع الخاص، وصاروا يتعالون على الناس الشرفاء والأحرار والمناضلين الثوار.
ان الردع والعقاب المناسب الذي ينبغي ان يجابه به هذا الوباء الاخلاقي المميت في فلسطين اليوم يجب ان يكون ايضا (مدروسا وقاسيا ومؤثرا بقوّة) كي يأتي بثماره الجيدة في ردع ظاهرة الفساد والمفسدين في دوائر الدولة وتجار السياسة ومنحرفي الوظائف العامة التي يبدو ان شهادات الجامعات التي يحملونها ومصطلحات التكنوقراط التي يتباهون بها لم تستطع ان تعطي للفاسدين اخلاقيات الامانة والصدق في العمل، ولهذا نقول انه لا يكفي ان يوقع العقاب القانوني فحسب كآلية لردع ظاهرة الفساد والمفسدين وقمعها عن الانتشار الثقافي في مجتمعنا الفلسطيني، ولكن مضافا للردع القانوني وفي حالة كحالتنا الاجتماعية الفلسطينية العشائرية يكون التشهير بالفاسدين من خلال تحريك سلطة اسم العشيرة وقانونها الصارم ايضا من ضمن ادوات الردع القانونية والأخلاقية للفاسدين في هذا المضمار، وكما هو معلوم في بعض المجتمعات القبلية العشائرية يكون خوف الفرد الفاسد على اسم القبيلة او العائلة او العشيرة وسمعتها لما يمثلانه في حياة افرادها من رعب اسري يكون مثل هذا العامل اشدّ ردعا بكثير لمفسد لو اتيت بجميع قوانين العالم الحضارية وأوصلت عقوباتها لحد الاعدام فانه ليس في وارد الخشية منها بقدر خشيته من سلطة العشيرة واسمها الذي يحاول عدم المساس به او التعرض له بسوء ان حاول سرقة المال العام ونسبت هذه الفعلة ليس له فحسب بل لاسم قبيلته التي يعبدها الانسان الفلسطيني بشكل مقدس كأحد ادوات الردع الاخلاقية لهذا الفاسد او ذاك.
نعم لنعلن الحرب على الفساد والفاسدين في فلسطين اليوم وبكل طريقة تضمن ردع الفاسدين عن التمادي بفسادهم وتدمير المجتمع بخبثهم، ولندرس بعمق مواد الردع القانونية المناسبة للإنسان الفاسد في الوطن الفلسطيني، ولتكون لدينا دراسات في مكافحة الجريمة الاقتصادية والإدارية والسياسية والمالية، ليس على اساسها القانوني الجاف لا غير، بل وكذالك في جوانبها النفسية والأخلاقية والدينية كذالك، ولا ننسى مطلقا دور الاعلام الرسمي الخاص والحكومي بالتحديد فعليه ان يقوم بواجبه ويعلن الحرب الاعلامية الواضحة على الفساد والمفسدين، وليشهر بهم وليحاكمهم محاكمات علنية ليرتدع من تسوّل له نفسه انتهاج نفس الطريق في الفساد وتدمير المجتمع، ولا ينبغي على المجتمع او سلطة الحكم التنفيذية ان تأخذهم لومه لائم في قضية فضح الفساد والفاسدين، ولكنّ الذي نعلمه وبكل تأكيد هو أن الفاسدين لم ولن يناموا هانئين، طالما شبح الملفات يطلّ عليهم مساء كل يوم، وطالما هناك شرفاء حملوا مسؤولية كشف الفاسدين وفضحهم، فكل الشكر والتقدير والإجلال للعاملين من أجل رفعه الوطن والمواطن.
آخر الكلام:
نقول للشرفاء: من أمِن العِقابَ أساءَ الأدب، فلا يردع أمثال هؤلاء الفاسدين واللصوص والعملاء غير القصاص.
بقلم/ رامي الغف*
*إعلامي وباحث سياسي