تذكرت الممثل السوري الراحل نهاد قلعي وعبارته المشهورة التي كان يرددها في مسلسلاته الكوميدية مع دريد لحام فيقول اذا اردت ان تعرف ماذا في ايطاليا يجب ان تعرف ماذا في البرازيل . وفي خضم هذا الواقع العربي الملتهب المضطرب .. اذا اردت ان تعرف ماذا في سوريا يجب ان تعرف ماذا يحدث في العراق. واذا اردت ان تعرف ماذا يحدث في ليبيا يجب ان تعرف ماذا يدور في اليمن ، لأن كل القنوات متصلة والاهداف متشابكة والمصالح متقاطعة ، ولأن كل المصائب مصدرها واحد معروف ، ومن السهل الوصول الى عنوانه. كل هذه الكوارث الجوالة جعلت من المشهد العربي الراهن ، المشهد الاكثر بؤسا في تاريخ العرب ، خصوصا في غياب الارادة وضياع البوصلة ..
في ظل منعطف خطير يمر به النظام الرسمي العربي ، وفي ظل محنة حقيقية تواجه الشعوب العربية ، تأتي ظاهرة الحروب الأهلية وهي الأولى من نوعها في العقود الأخيرة ، وقد امتدت إلى الكثير من الدول ، بسبب مزيج متشابك من الدوافع والمتغيرات ، بعد أن عجز العالم العربي عن تأسيس الدولة الحديثة على غرار النموذج الأوروبي. وعلى رغم أن هذا النموذج حمل في طياته نتاج ثورة ثقافية كبرى في الدول الأوروبية نجحت فيها هذه الثورة في الفصل التام بين النصوص المقدسة وسلوك الدولة في الشأن السياسي والاقتصادي ، وفي المقابل نجد الدول العربية ما زالت تعاني أزمة اندماج وطني تتفاقم وتهدد بزوال بعض الدول أو تقسيم وتفتيت البعض الآخر ، وذلك بفعل التخطيط العشوائي للحدود في اتفاقية سايكس . بيكو، ما أدى إلى عدم تطابق الحدود السياسية مع الحدود السكانية في معظم تلك الدول ، فهناك الكثير من المذاهب والإثنيات والطوائف داخل حدود الدولة الواحدة ، وهو وضع فشلت معظم النظم الحاكمة في العالم العربي في التعامل معه بحكمة وفاعلية ، ما اضطر جماعات كثيرة شعرت بأنها محرومة للجوء إلى العنف المسلح ، إما لتحسين وضعها في عمليتي توزيع الثروة والمشاركة السياسية في الدولة ، وإما للانفصال عنها ، كما حدث في جنوب السودان ، وفي الوقت نفسه وقف المجتمع الدولي في الكثير من الحالات داعم للانفصال ، بسبب ضعف الأهمية الاستراتيجية للدولة ونتيجة مصالح بعض الدول الكبرى ومصالح العدو الصهيوني ، كما هي الحال في سورية.
غالباً ما تكون الدولة في حال استقرار في ظل ازدهار اقتصادي وخطط تنموية متوازنة ، فتكون قادرة على تجسيد ترابط الجماعات المختلفة ، وعدم المساس بالتعددية الإثنية والثقافية. وهو ما لم يحدث في المجتمعات العربية. فقد أصبحت الحدود تحوي داخلها جماعات إثنية مختلفة لم تتفاعل تفاعلاً إيجابياً ، ولم تنصهر داخل الحدود الحديثة للدولة ، وتكرست من خلال ذلك حالات التمرد ورفض الانصياع لهيكل الدولة الحديثة ، بخاصة في حال تولي أحد أفراد تلك الجماعات السلطة ، وهو ما يقابل بالرفض من الجماعات الأخرى ويؤدي إلى حالات من التمرد ، ثم تتطور الأمور إلى صراعات داخلية ومواجهات دموية تؤدي إلى مقتل الآلاف وتشريد الملايين.
وتتعدد التعريفات الخاصة بمفهوم الصراع الداخلي ، فمنهم من يعرّفه بأنه يحدث داخل حدود دولة واحدة بالأساس ، بصرف النظر عما إذا كان لذلك الصراع امتداد خارج حدود تلك الدولة .
ومن ثم نقبل حدود الدولة أو الوحدة السياسية محل الصراع باعتبارها شيئاً غير قابل للتغيير .
وغالباً ما ينشأ الصراع حينما تختلف المصالح بين شخصين أو أكثر أو مجموعة وأخرى داخل دولة ما وينفجر الصراع ثم يتحول إلى حرب أهلية إذا توافر دعم خارجي لجماعة أو أكثر من المشاركين فيه من دول الجوار .
الدول الكبرى والعدو الصهيوني عملوا على فشل الدول في الأنظمة الجمهورية بالحفاظ على سيادتها وهيبتها داخلياً وإقليمياً ودولياً ، وأبرز النماذج اليمن وليبيا وسورية والعراق التي أصبحت فيها الدولة غير قادرة على بسط نفوذها على كامل أراضيها وتوفير الحماية لمواطنيها. تراجع الانتماء الوطني وبروز الانتماء الفئوي والقبلي وا لطائفية والمذهبية ، ما يضعف مكانة الدولة وسيادتها ويشجع على تفتتيها ..
الدول الكبرى والعدو الصهيوني شجعوا المجتمعات العربية على نزاعات طائفية ومذهبية وعرقية ، لا سيما في اليمن وليبيا وسورية والعراق ، في شكل أصبح معه منطق القوة والاحتكام إلى السلاح هو الأساس بين المتناحرين ، كما كان يحدث في العصور الجاهلية من نزاعات على أماكن الرعي والماء ، من دون الاعتداد بالعدالة أوالاكتراث للقانون . الصراعات هاجرة السكان في شكل قسري ، هرباً من تداعيات القتال الى معسكرات خارج البلاد و داخل بلادهم ، الأمر الذي يؤدى إلى اختلال التوازنات في دول الملجأ ، وربما إلى إشعال صراعات جديدة فيها ، كما هي الحال في لبنان , حيث تعرض عدة من انتهاك حقوق الإنسان الأساسية وتعرض عدة للتعذيب والاغتصاب وزواج القصر والاعتقال التعسفي والنفي.
وتحول الصراع المسلح في سورية إلى منطقة جذب لعناصر الجماعات المتطرفة في العالم ، ما يشكل قنبلة موقوتة بعد انتهاء الصراع ، تقضّ مضاجع الأنظمة العربية.
التشرذم العربي فرصة لبعض الدول الإقليمية للتدخل في شؤون عدد من البلدان العربية والعبث بمقدراته ، وهو ما يزيد حال الارتباك وعدم الاستقرار ، ومن ثمَّ انتشار عملية استنساخ النماذج الفاشلة للدول العربية. ويُمثل الدعم الذي تقدمه كل من تركيا والغرب والعدو الصهيوني ، أبرز الأطراف الإقليمية ، للأطراف المتصارعة في سورية مثالاً حياً على ذلك في إطالة أمد الصراع للقضاء على البقية الباقية من الدولة السورية.
فإن الأمن القومي العربي في حاجة إلى استراتيجية عاجلة للحفاظ على ما تبقى من الجسد الهزيل ، كما أنه في حاجة إلى بلورة العلاقة بين الدولة والمجتمع في بعض دول المنطقة وإلى مزيد من الشفافية بين الحكام والمحكومين طبقاً للعقد الاجتماعي الذي يحتم رؤية شاملة لإدارة هذه العلاقة ، لأن أي خلل في هذه العلاقة سيؤدي إلى حال من الانسداد ، خصوصاً مع عدم قدرة كل الأطر الاقتصادية والسياسية الراهنة على تلبية احتياجات المواطن العربي ، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى زيادة معدلات العنف المتبادل وإلى نشأة جيل جديد يصعب السيطرة عليه ويساهم في توفير بيئة خصبة للإرهاب وانتقال الفشل واستنساخه من دولة إلى أخرى.
ولكن هذا التيه في الفراغ الواسع ، وفي عتمة الصحراء الممتدة بلا نهاية ، هو الذي ايقظ مطامع الجيران وانعش احلامهم ومنحهم الفرصة التاريخية للتدخل في شؤوننا والدخول الى ديارنا العربية من كل الاتجاهات والبوابات وفي مقدمتها العراق بعد الاحتلال. وهنا لا اريد ان اكرر ما ذاع وشاع ونشر وانتشر عن مشروع الاحتلال لتقسيم البلد والشعب ، أو الفتنة الطائفية التي خلقها الاحتلال قبل رحيله ، حيث اصبح في العراق امارة داعش المذهبية التي تتوسع ولا تنتصر ودولة اخرى في بغداد ، وحكومتها تريد شراء الاحتلال وعودته بالمال ، لأن واشنطن تسوق بضاعة اسمها الاحتلال بذكاء وعجرفة ، فهي تريد اعادة جيوشها ، بعد رجاء والحاح عربي ، من الابواب الواسعة بعدما خرجت من النوافذ ، تحت ضربات المقاومة ورفض الشعب للاحتلال ، الذي نكب ونهب العراق.
اما في سوريا ، فهناك سيناريو مختلف ، لأن دمشق استفادت من التجربة العراقية ، فظل الحزب موحدا والجيش متماسكا ، وخاضا معركة حياة او موت في صراع البقاء ، وفي ذهن كل فرد منهم صورة واضحة عن مأساة الحزب والجيش في العراق. وفي سوريا لم يحدث الانقسام الطائفي في الدولة والمجتمع كما حدث في العراق ، رغم الزخم المالي والإعلامي الذي يهدف الى ايقاظ واستحضار المشاعر الدينية واستخدام المقدس لتحويلها الى حرب اهلية طائفية على غرار ما يدور في بلاد الرافدين ، وقد تكون تركيا قد لعبت دور رأس الحربة في هذا الهجوم.
ولكن ، حتى الآن ، من الصعب معرفة نهاية الطريق ، او وقت الخلاص في كل البلاد العربية الملتهبة الغارقة في حمام الدم. ولكن الذي نستطيع الرهان عليه ان مشروع اعادة تقسيم الوطن العربي ، على قاعدة طائفية وعرقية ، لن يتحقق او ينتصر ، وسيأتي الوقت الذي تنتصر فيه الهوية الوطنية العربية ، وتهزم الهوية البديلة الآتية على طوق مشروع التقسيم المشبوه.
جمال ايوب