المتابع للأحداث السياسية على الساحة الفلسطينية , يشعر بحالة من اللاوعي والعجز في الإدراك تحكم سلوك السياسيين من كافة الألوان الفصائلية , فهل يعي هؤلاء ماذا يريد الوطن ؟ وهل يطلعون بشكل جيد عن طموحات الفلسطيني في الوطن والشتات ؟ , والأدهى من هذا وذاك هل يحيط السياسيين الحاكمين منهم أو المنظرين بماهية القضية الفلسطينية ؟! , وما هو الطريق الأقرب والأسلم لإنجاز التحرر الوطني والإنعتاق من الإحتلال الصهيوني .
لا يمكن أن نغفل أن لدينا في الساحة الفلسطينية ,تضارب في الرؤى السياسية فيما يتعلق بالصراع مع الإحتلال الصهيوني , ويدخل أصحاب هذه الرؤى في تصادم وإختلاف عميق فيما بينهم في غياب الجامع المشترك أو نقاط الإلتقاء ,وهذا ما يعطل أو يؤخر ميلاد البرنامج الفلسطيني الوطني الشامل ,ولعل أهمية نجاح هذا المشروع تكمن في إعلان التصادم مع الإحتلال الصهيوني والتأكيد على مقاومته بكافة الوسائل والإمكانيات , وأن أي مفاوضات مع الإحتلال يجب أن تنصب في مسار إستعادة الحقوق الفلسطينية , دون تفريط أو تنازل أو إلتزام أمني أو سياسي ينعكس بالسلب على جوهر القضية الفلسطينية , والتي يسعى أصحابها وأهلها إلى إستعادة الوطن كاملاً من بحره إلى نهره , فالإحتلال جريمة بشعة يجب أن تزول وينعدم أثرها على الأرض ويزول للأبد, ومن القواعد القانونية المتعارف عليها أن التقادم لا يسقط الحقوق , فما بالنا بالحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني المظلوم , فالوطن هو ملك الأجيال المتعاقبة , فلا يمكن التنازل عن شبراً واحداً منه لصالح الإحتلال تحت أي مبرر أو شعار .
وهنا يبرز بوضوح حقيقة القول بأن أول لبنة للإنقسام الحقيقي بين الفلسطينيين , وضعت في الجسد الوطني كانت إتفاقيات أوسلو المشؤمة ,حيث برز بوضوح الإنقسام الحاد بين مؤيد لمسار التسوية وبين معارض بقوة لذلك المسار لما فيه من تفريط بكامل الوطن عبر بوابة الإعتراف بكيان الإحتلال وشرعية وجوده كدولة ,مقابل سلطة حكم ذاتي في الضفة وقطاع غزة أطلق عليها مصطلح السلطة الفلسطينية, ولقد مارست السلطة القمع عبر أدواتها الأمنية ضد المعارضين لسياساتها التفاوضية مع الإحتلال , ولقد وصل الأمر إلى حد تجريم الفعل المقاوم ضد المحتل , بدعاوي باطلة بأن الفعل المقاوم يعرض الوليد الفلسطيني للخطر , ولقد شاركت السلطة الفلسطينية والتي جاءت نتاج إتفاقية أوسلو المختلف عليها فلسطينياً , في أعمال مؤتمر مكافحة (الإرهاب) عام 1996م , والذي تم عقده في مدينة شرم الشيخ المصرية , بعد تعرض الكيان الصهيوني لموجة من عمليات الإنتقام للمهندس يحيي عياش , والذي اغتالته المخابرات الصهيونية في يناير 1996م.
في المقابل تمسك الفريق المعارض لأوسلو, بموقفه الرافض لإفرازات هذا الإتفاق وخاصة الشق الأمني الذي هو صلب تفاهمات أوسلو , والذي يصب في خدمة الكيان الصهيوني بإمتياز, ولقد كان أثر ذلك واضحة عبر قمع كل حالات المقاومة من مختلف المشارب الفلسطينية الإسلامية والوطنية, وكان الفريق الرافض لأوسلو يعلن في كل مناسبة الرفض المطلق للمسار التفاوضي مع الكيان الصهيوني , وإنشغل هذا الفريق في مرحلة الضعف , بعد تعرضه للقمع الواسع بالتنظير للفشل المتوقع للعملية التفاوضية في جلب وإستعادة الحقوق الوطنية , ولعل هذا الفشل حدث سريعاً في أواخر عام 2000م بعد إنهيار المفاوضات وإندلاع إنتفاضة الأقصى .
ورغم قناعة القيادة التاريخية لمنظمة التحرير والسلطة بقيادة الراحل أبو عمار رحمه الله , بفشل عملية التسوية في إنجاز أي مشروع وطني مرحلي لصالح الشعب الفلسطيني ,الا أن فريقا واسع في المنظمة والسلطة وحفاظاً على مصالحهم الذاتية , إستمروا بذات المسار التفاوضي حتى في ظل الحصار السياسي والفعلي للرئيس الراحل , وبعد رحيله مسموماً تمت السيطرة من قبل ذلك الفريق على كامل مفاصل وهيئات القرار في المنظمة والسلطة , لصالح النهج التفاوضي كاستراتيجية حياة لمشروع السلطة التي تتغذي على أموال ضرائب المقاصة والمال المسيس, وبعد فشل أصحاب نهج التسوية في الحصول على الشرعية عبر إنتخابات 2006م, حاولوا بكافة إمكانياتهم السلطوية ومؤسساتهم المتعددة , إجبار الفريق الفائز والذي كان يحمل شعار يد تبني ويد تقاوم , أن يسلك مسلكهم وأن يمضي وفقاً لرؤيتهم السياسية , بالقول بأن البناء والإصلاح في المجتمع الفلسطيني يحتاج إلى أن تسقط اليد الأخرى البندقية , وأن يعترف الفريق المقاوم الفائز بشروط الرباعية وفي مقدمتها الإعتراف بـ " إسرائيل ", حتى أصبح قادة السلطة يتحدثون بلسان الرباعية في الحوارات الفلسطينية الداخلية , مطالبين بضرورة الإعتراف بشرعية الإحتلال ونبذ المقاومة كوسيلة تحرر في مواجهة المحتل.
هذه الحقيقة التاريخية يجب أن لا تغيب عن أذهاننا, أمام حدة التجاذب والتراشق الإعلامي حول الدور الوظيفي للسلطة إتجاه الفلسطينيين في الضفة وغزة ,لأنه بكل صراحة هذه من تلك, والواضح أن الطرف المعترف به صهيونياً وإقليمياً ودولياً , يحاول على مدار الساعة إجبار الكل الفلسطيني على أن يسير في مركبه , فهو حصرياً صاحب المشروع الوطني وغيره ليس له الحق في تبني أي مشروع سياسي لإنجاز الحقوق الوطنية خارج رؤية السلطة السياسية القائمة على التفاوض مع الكيان الصهيوني والإعتراف بدولته , والتي تقوم على ما مساحته 80% من فلسطين المحتلة.
وهنا تبدو اللقاءات والحوارات في قطر حول المصالحة الفلسطينية من قبيل الطحن في الهواء , ففي الوقت التي يتم التفاوض على تطبيق المصالحة الفلسطينية , يذهب الرئيس عباس بعيداً بالتأكيد على إلتزامه الشخصي وإلتزام سلطته, بالتنسيق الأمني مع المحتل الصهيوني , وعلى مدار الساعة تعقد اللقاءات الأمنية بين قادة الإحتلال وقادة الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة !.
ويطرح هنا سؤال مهم هل المصالحة الفلسطينية تنحصر في موضوع الحكومة وواجباتها الوظيفية فقط ؟ , بكل تأكيد هناك مواضيع أخرى أكثر أهمية فيما يتعلق بمصير القضية الفلسطينية ومستقبلها , في مقدمتها إجتماع الإطار القيادي لمنظمة التحرير, والذي يعول عليه في تصحيح المسار الوطني للمنظمة , وتوسيع المشاركة الفلسطينية بإنضمام حركتي حماس والجهاد , وكما أن الملف الأمني وعقيدة الأجهزة الأمنية الأكثر خطورة من الملفات المطروحة للحوار فلسطينياً , فهل تقبل حماس باتفاق يشرعن التنسيق الأمني ؟! عبر حكومة (توافق أو وحدة) تعتمد برنامج الرئيس عباس كخط سياسي لها ؟! أو أن تعترف الحكومة بـ (إسرائيل) حتى تنال الإعتراف الدولي! في إعتقادي حوار السلطة مع حماس وفي نفس الوقت إستجدائها لقاء نتانياهو لا يستقيمان , فمن البديهات أن لقاء نتانياهو يتوجب لإنعقاده الإبتعاد عن حماس كشرط من شروط إستمرار العلاقة بين السلطة والإحتلال .
وقناعتي بأن ملف المصالحة الفلسطينية لكي يكتب له النجاح , يجب أن يتجاوز الثنائية بين فتح وحماس , بحيث يتم إشراك الفصائل الفلسطينية الفاعلة وترتيب الأولويات الوطنية ,حيث أن ترتيب الإطار القيادي الموقت للمنظمة, أولى من إجراء الإنتخابات التشريعية , لأن ترتيب البيت المركزي الممثل في المنظمة , أهم من ترتيب السلطة المشار إليها كأحد مؤسسات منظمة التحرير, وكما يجب العمل على فصل قيادة المنظمة عن قيادة السلطة وعدم الجمع بينهما تحت أي ذريعة, فالمنظمة ككيان جامع للفلسطينيين في الداخل والخارج من الممكن لها أن تحمل مشروع تحرري شامل , والسلطة ذات برنامج وظيفي خدماتي لصالح الفلسطيني في الداخل المحتل , وكما أن إنعقاد المجلس التشريعي المنتخب مقدم على تشكيل حكومة الوحدة الوطنية , لدواعي نيل الشرعية القانونية للحكومة وإخضاعها لرقابة المجلس التشريعي أثناء مدة عملها , وكما أن الإنتخابات الشاملة خيار مقدم عن أي إنتخابات جزئية ,لأن(الإنتخابات الرئاسية والبرلمانية والمجلس الوطني) مجتمعة سينتج عنها قيادة الشعب الفلسطيني الجديدة .
وهنا يقع على الفصائل الفلسطينية واجب فرض الرؤية الوطنية الشاملة ,على الحوارات بين حماس وفتح , ليصاغ برنامج وطني تحرري ,يضم الكل الفلسطيني وتتمحور كافة جهود وطاقات الفلسطينيون لإنجازه , وهنا يجب أن تنصب المطالبة على ضرورة أن يكون الحوار وطنياً جامعاً , للخروج من دائرة التجاذب بين فتح وحماس على الملفات الخدماتية ,لأن الإتفاق الوطني الشامل ينجز للفلسطينيين برنامج سياسي وطني مجمع عليه , يتم من خلاله مخاطبة العالم موحدين, وبذلك فقط يتم القضاء على كافة الخلافات السياسية في رأس الهرم القيادي الفلسطيني , وبتحقيق ذلك الأمر يتم معالجة كافة الإشكاليات والمنازعات الجانبية التي ستذوب تلقائياً , والتي لن يكون لها وجود في حالة الإتفاق والإجماع الفلسطيني على البرنامج الوطني الفلسطيني .
بقلم/ جبريل عوده