عشية انطلاق لقاءات الدوحة في محاولة جديدة لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وزع مركز مسارات وثيقة مقترحة للوحدة الوطنية تعرض وجهة نظر متكاملة تتضمن عدة أجزاء: جذور الانقسام وأسبابه، أطراف عدة ووجهات نظر متباينة، مبادئ ومنطلقات عامة، محددات ووسائل التوافق على المبادئ والمنطلقات، الرزمة الشاملة، خاتمة.
أبرز ما جاء في الوثيقة أنها أكدت على ضرورة التوافق على البرنامج السياسي واستراتيجية التحرر الوطني، وبلورة عقد اجتماعي على أساس إجراء مصالحة تاريخية بين التيارات الوطنية والديمقراطية والإسلامية، وإنهاء الانقسام في سياق إعادة بناء الحركة الوطنية والتمثيل وإعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير، بحيث تضم مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وإعادة النظر في شكل ودور ووظائف السلطة، وإعادة تحديد العلاقة مع دولة الاحتلال والتحلل التدريجي من الالتزامات المجحفة بموجب اتفاق أوسلو وملحقاته، والتوافق على وظيفة الانتخابات في الشرط الاستعماري الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
ما يكمن وراء توزيع هذه الوثيقة بالتزامن مع اللقاءات، تقديم نموذج يظهر إمكانية إنجاز الوحدة، إذا توفرت القناعات والإرادات لتحقيقها، وعلى أساس معادلة "لا غالب ولا مغلوب"، أو كما يقال في الانجليزية "ون ون سليوشن".
الخلل الأساسي الذي أدى إلى افشال كل المبادرات والاتفاقات المبرمة، أنها كانت تحدث تحت وطأة ظروف وضغوط داخلية وخارجية، وتتعامل مع ملف المصالحة كأنه معزول عن غيره من الملفات، بحيث جرى العمل على تحقيق المصالحة مع تأجيل النظر في الملفات الأخرى، وهذا أدى إلى انهيار أو تعطل الحكومات التي شكلت بعد اتفاق مكة وإعلان الشاطئ لأن الظروف تغيرت والحاجة الاضطرارية زالت لدى طرف واحد أو طرفي الانقسام.
يرزح طرفا الانقسام (والكل الفلسطيني) في المرحلة الراهنة الفترة تحت وطأة أزمة شديدة ومعرضة للتفاقم، وهناك دعوات من أطراف عربية وإقليمية للتقدم في ملف المصالحة الفلسطينية، لذا يمكن أن نشهد هذه المرة اتفاقا على تشكيل حكومة وحدة وطنية، لكنها إذا لم تتجاوز أسباب الفشل ستكون معرضة للانهيار، خصوصا إذا حدثت متغيرات تسمح لطرف أو لطرفي الانقسام بالتحرر من الالتزامات بموجب الاتفاق.
في هذا السياق، تجاهلت المحاولات السابقة أهمية الاتفاق على البرنامج السياسي والنضالي الذي يعني في جوهره كيف ومن يتخذ قرار السلم والحرب، وهل يمكن ترك هذا الأمر الحاسم ليقرر فيه كل فصيل أو حتى كل مجموعة لوحدها؟ لا شك بأن ذلك يعد وصفة للفشل المؤكد، فلا بد من الاتفاق على استراتيجية قادرة على تحقيق الأهداف الوطنية وعلى المرجعيات والمؤسسات الوطنية والشرعية ومبدأ الديمقراطية التوافقية.
كان التصور الذي حكم محاولات إنهاء الانقسام مبنيا على أساس تحقيق المصالحة أولا، ثم فتح الملفات الأخرى، وحصل ما حصل من استعصاء حال دون تحقيق تقدم، بل وفاقم حالة الانقسام. إن الاتفاق على البرنامج السياسي والنضالي هو مفتاح تحقيق الوحدة، وإذا لم يتفق عليه لا يمكن أن تكون هناك وحدة حقيقية.
المقصود بما سبق أن يتضمن البرنامج المطلوب القواسم المشتركة الممكن الاتفاق عليها، لأن فلسطين تمر بمرحلة تحرر وطني، والمخاطر المشتركة تجعل الاتفاق على مواجهتها أمرا ممكنا، فهو صعب ولكنه ليس مستحيلا. وبطبيعة الحال، لا يلغي الاتفاق على القواسم المشتركة الخلافات والرؤى المتباينة، فقد يرى فصيل أن إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة وحل مشكلة اللاجئين حلا عادلا نهاية المطاف، بينما يرى فصيل آخر أن هذا الموقف عبارة عن برنامج مرحلي وأن الحل النهائي بتمثل بتحرير فلسطين. لذلك، من الصعب جدا، إن لم يكن من المستحيل، اقامة وحدة صلبة اذا لم يكن هناك اتفاق على البرنامج المرحلي على الأقل. وقد بات الاتفاق على البرنامج السياسي ممكنا في ضوء حدوث تقارب ملموس ويتعمق باستمرار، لأن البرامج المعتمدة بغض النظر عن الخلافات بينها فشلت ولم تحقق المراد منها.
نقطه أخرى تستحق البحث هي منظمة التحرير، فرغم أن مختلف الفصائل الموقعة على اتفاق القاهرة ترى أنها المرجعية العليا والممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، إلا أنه تم إهمالها كليا، ليس في نص الاتفاق، وإنما عند التطبيق. فمنذ إعلان القاهرة في آذار من عام 2005، اتفق على خارطة طريق لإصلاح وتفعيل المنظمة دون أن يتم تطبيقها، وهناك بند في اتفاق القاهرة للعام 2011 ينص بوضوح على أن لجنة تفعيل المنظمة ستلعب دور الإطار القيادي المؤقت إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد واختيار مؤسسات المنظمة.
وبالفعل، تم تشكيل الإطار القيادي المؤقت وعقد جلستين في القاهرة، ثم جرى تجميده، وبات الخلاف بشأنه أحد أهم الأسباب التي حالت دون إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
ولدى التعمق في بحث أسباب هذا الخلاف، سنجد أن عدم عقده يرجع إلى عدم رغبة الرئيس محمود عباس وحركة فتح بأن تكون حماس (وضمنا الجهاد الاسلامي) شريكا في المنظمة بينما تواصل الاحتفاظ بسيطرتها الكاملة والانفرادية على قطاع غزة، وهذا عذر وجيه يتطلب أن يكون الانضمام للمنظمة جزءا من اتفاق شامل يضمن التوافق على الشراكة في المنظمة والسلطة بعيدا عن الهيمنة والسيطرة الأحادية. كما أن هناك خشية إذا حدث ذلك دون الالتزام ببرنامج والتزامات المنظمة أن يكون ذريعة لإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، وربما الأمم المتحدة وغيرها، لفرض عقوبات سياسية ومالية من شأنها المساس بشرعية المنظمة وقدرة السلطة على البقاء.
يعيدنا ما سبق مرة أخرى للبرنامج السياسي، وهذا الأمر لا يمكن معالجته من خلال دعوة "حماس" وكل من يريد أو يجب أن ينضم للمنظمة إلى تبني برنامجها كما هو دون أي تغيير، بل من خلال وضع هذه النقطة الجوهرية والحاسمة على طاولة الحوار حتى يتم الاتفاق عليها، لأنه إذا تم الاتفاق عليها يمكن أن تكون هناك وحدة، واذا لم يحدث ذلك فلن تتحقق الوحدة.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هو: أي برنامج للمنظمة مطلوب الالتزام به، هل هو برنامج حق تقرير المصير والعودة وإنهاء الاحتلال والاستقلال الوطني عبر اقامة الدولة ذات السيادة على حدود١٩٦٧ وعاصمتها القدس، أم ما انتهى إليه بعد توقيع اتفاق أوسلو، بما تضمنه من اعتراف بحق إسرائيل في الوجود وإدانة المقاومة ووقفها واقامة سلطة مقيدة بالتزامات وشروط سياسية وأمنية واقتصادية مجحفة، وما تبعه من اتفاقات وملحقات ومفاوضات جرى فيها بشكل متواتر هبوط سقف الموقف الفلسطيني كثيرا، حيث تم تبني مبدأ تبادل الأراضي بما يشمل الاستعداد لقبول ضم إسرائيل لمعظم الكتل الاستيطانية، وكذلك الموافقة على معايير كلينتون لحل قضية اللاجئين، ومبادرة السلام العربية التي انتقصت من حق العودة بحديثها عن التوصل إلى حل متفق عليه لقضية اللاجئين على اساس قرار١٩٤؟
تقول قيادة المنظمة الآن إنها بصدد وقف العمل بالالتزامات المترتبة عليها بموجب اتفاق أوسلو، ووصلت إلى حد طرح خيارات التدويل والمقاومة الشعبية والمقاطعة والانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية والتعهد بتفعيل هذا الانضمام، وإلى حد التهديد بسحب اعترافها بإسرائيل. وهذا يعني أن الحاجة ملحة الآن لإجراء تعديلات على برنامج المنظمة، إن لم يكن من حيث الأهداف المرحلية، فعلى الأقل من حيث أشكال العمل والنضال والآليات، إذ لم تعد المفاوضات الثنائية برعاية أميركية هي اُسلوب العمل الوحيد أو الرئيسي، وهناك مطالبة فلسطينية رسمية بتغيير جدي في المسار السابق، وهذا التغيير يُفترض أن يكون أعمق وأشمل عند الحديث عن إعادة بناء الوحدة الوطنية.
لا نضيف جديدا بالقول إن الوحدة طريق الانتصار لأية حركة تحرر، وربما نضيف بأن الوحدة على أسس وطنية وشراكة سياسية حقيقية وديمقراطية توافقية تنسجم مع الشرط الاستعماري الذي تعيشه فلسطين، أصبحت شرطا لاستمرار القضية وبقاء الشعب على أرض وطنه وسط الأخطار المحدقة والمتزايدة، في ظل حالة التدهور المتفاقم في المنطقة العربية، وتسارع اندفاع إسرائيل نحو تطبيق مخططاتها العدوانية والتوسعية والاستيطانية والعنصرية وإحياء هدف إقامة إسرائيل الكبرى.
إن أي اتفاق يخرج عن لقاءات الدوحة ويكتفي بالاتفاق على تشكيل حكومة ووضع كل الملفات في حضنها، سيكون بمثابة وصفة مضمونة للفشل من جديد، لأنه يجعل الحكومة التي تشارك فيها الفصائل المرجعية العليا، بما ينتقص من مكانة المنظمة، ما يتطلب توسيع وتفعيل للإطار القيادي المؤقت للقيام بدور جدي إلى حين انعقاد المجلس الوطني، كما يضع الحكومة في حقل ألغام يصبح خطر انفجار أحدها مسألة وقت.
هاني المصري
2016-02-09