مداد الحبر والدموع ـ في رثاء المناضلين

بقلم: عبد الحميد صيام

(1) من أصعب لحظات العمر أن تفقد رفيق نضال تقاسمت معه مرارة الأيام وحلاوتها، وعشت معه تجارب العمل الوطني والجماهيري والطلابي لمدة تزيد عن ثلاثين سنة. تنظر إلى الخلف فتجد العديد من الإنجازات قد تبعثرت أو غيرت اتجاهها أو تجمدت في مكانها، وتجد العديد من الرفاق قد قضوا حقيقة أو مجازا. ومنهم من انحرفت بوصلته "ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا".
لقد فقدت في السنوات الماضية رفاق درب وإخوة نضال ودائما يُطلب مني أن أكون أحدة المؤبنين. لقد تعودت على إلقاء كلمة التأبين الرئيسية وفي كل مرة أقف أرثي رفيق نضال أبدأ كلمتي بهذا البيت:

لكثرة ما رثيت رفاق دربي
بدأت أكتب شيئا في رثائي

كم مرة وقفت هذا الموقف لأرثي أحبة وأصدقاء مناضلين على الساحة الأمريكية، الذين بدأوا يغادروننا الواحد تلو الآخر، حتى نكاد نتلفت من حولنا فلا نجد إلا كثيرا من العتمة يخترقها ضوء شمعة أو شمعتين- المرحوم صبحي الودي، هاني عوض الله، علي قاصد، علي توفيق، عيسى معالي، ومن قبلهم حاتم الحسيني ومحمود ناجي. كما أننا فقدنا باقة من أعظم الأساتذة الذين بدأوا بالعمل على تنظيم جمهور الخريجين والمثقفين في الساحة الأمريكية وحشدهم للكتابة والتصدي للإعلام المعادي، كان آخرهم مجيد الكاظمي ونصير عاروري وإبراهيم أبو لغد وإدوارد سعيد وهشام شرابي وسميح فرسون، رحمهم الله جميعا.

(2)
وها نحن اليوم نقف مصدومين أمام رحيل فارس آخر من فرسان العمل الوطني على الساحة الأمريكية. أخي وصديقي ورفيق دربي أنيس البرغوثي الذي وافته المنية قبل الأوان في بلدته دير غسانة قرب رام الله.
ودعني أقدم أولا تعازي القلبية لأبناء الشعب الفلسطيني والعربي في المهجر والوطن، على فقد الأخ والمناضل والصديق والرفيق أنيس البرغوثي. هذا الرحيل غير المتوقع موجع، لأن المناضل الفقيد جمعتني به سنوات طويلة من العمل الوطني المشترك، وأصبحنا ظلين متلازمين في العمل على الساحة الأمريكية لسنوات، منذ عرفني عليه الشهيد ماجد أبو شرار في حفل استقبال بالأمم المتحدة في أواسط السبعينيات، حيث سألني هل ضممتم أنيس البرغوثي لدائرة العمل الوطني على الساحة الأمريكية فقلت له لا أعرفه. قدمه لي وكان قد وصل حديثا ليعمل في مكتب الجامعة العربية في مكتب المقاطعة. ومنذ ذلك اليوم وحتى الصيف الفائت ونحن على تواصل يجمعنا الهم الفلسطيني والشجن الفلسطيني والشأن الفلسطيني والبحث عن أقرب الطرق للتعافي من الكارثة المتعددة الجوانب، التي لحقت بشعبنا وما زالت. ولا بد أن يشعر أبناء الجالية العربية الفلسطينية غياب أنيس فقد تركت عودته إلى الوطن فراغا في الساحة الفلسطينية، فما بالك عندما يكون الرحيل دائما والغياب سرمديا.

(3)
أنيس إنسان بسيط مثل وردة، شهم كحصان جموح، دائم الحركة كنحلة. فلاح مع الفلاحين وابن مدينة مع المدنيين ومثقف مع المثقفين- متواضع كأنه ناسك في معبد، صلب عندما يتعلق الأمر بقضية شعبه كأنه الفولاذ. نظيف اليد والقلب والروح. كان أبعد الناس عن طريق الفساد الذي جرف الكثيرين فاغتنوا على حساب معاناة شعبهم، بل عاش وقضى نقيا. يحمل الهم العام ولا يتهرب من مسؤولية ولا يتكل على غيره في إنجازها. لم يكتف مثل الكثيرين بمقعد الوظيفة وجلس وراء كرسي مخملي يطالع آخر ما جاء من أخبار- لم يغلق نوافذ العقل ولم يكتف بالعمل الميداني، بل جمع الاثنين معا، وهو يحمل الهم العام وينزل به إلى الميدان ليخوض التجربة التنظيمية والسياسية والطلابية والجماهيرية بكل تفاصيلها.
أكاد أجزم أن أنيس لم يتغيب عن مؤتمر طلابي أو حشد جماهيري أو مؤتمر للمجلس الفلسطيني في أمريكا الشمالية، أو رابطة الخريجين العرب أو مؤتمرات المدن والقرى. النشاط بالنسبة لأنيس الهواء الذي يتنفس، كالسمكة التي لا تعيش خارج الماء كان أنيس لا حياة له بعيدا عن الجماهير. تسمع صوته صارخا أحيانا وهادئا بسيطا مصغيا في أكثر الأحيان. يغضب بسرعة ولكن ثورة الغضب لا تستمر أكثر من ثوان قليلة فيمسح ذلك الوجه الغاضب ويستبدله ببسمته المعروفه وضحكته القلبية. صوته يرعد أحيانا لشحذ الهمم وتقوية العزائم وتصويب التطرف أو كبح جماح التعصب التنظيمي.
أينما اتجهت تجده أمامك ولا أكاد أذكر إنجازا فلسطينيا أو عربيا على الساحة الأمريكية، من دون أن يكون لأنيس دور ريادي في التخطيط والتنظيم والتنفيذ والقيادة. لا يكل ولا يمل ولا ييأس ولا يرفع يديه مستسلما أبدا، وكلما حاورته وجدته مستعدا للعطاء. غير متعصب لرأي ولا متهاون في موقف هو مقتنع بسلامته.

(4)
اختلفنا واتفقنا ثم اختلفنا وعدنا اتفقنا والتقينا. تدخل المرحوم صالح البرغوثي أبو خالد شقيق أنيس لإعادة المياه إلى مجاريها. لم يكن خلافنا على مناصب أو مواقع أو غنائم أو مكاسب، بل على أي الطرق أفضل من أجل فلسطين. كنا نتحاور ساعات وليالي حول النهج والمسيرة والأخطاء والإنجازات والاستراتيجية والتكتيكات الضار منها والنافع والأشخاص والرموز. إذن لم يكن الخلاف شخصيا. لم يتفوه أنيس بكلمة سوء أثناء احتدام النقاشات الداخلية… وبسرعة التقينا وعادت الأمور إلى طبيعتها. زرته في مكتبه في الرام ورام الله. وكان يحرص على لقائي كلما جاء إلى نيويورك. آخر لقاء لنا كان في الصيف في مطعم نور بمنطقة البلوع في رام الله. تذاكرنا الأيام الخوالي واعترفنا لبعضنا بأن زماننا قد مضى إلا قليلا… قال لي أحييك على نشاطك الكتابي. قلت له إن الكتابة بالنسبة لي هي إكسير الحياة الذي أستند إليه كي لا أنطفىء قبل الأوان.
الحروف والكلمات يا أخي أنيس هي كائنات حية تعيش معي وتنضج وتكبر وتقاتل وتصحح وتثقف وتتهم وتعري. وقد وعدت أن لا يسيل مدادي دموعا إلا للمناضلين أمثالك. وقد بررت بوعدي. وعندما يتوقف القلم سيتوقف القلب ولا أعرف أيهما سيسبق الآخر. لكن بالتأكيد سيلحق أحدهما بالآخر.

(5)
كنت أشجعنا يا أنيس عندما حملت همومك وقليلا من الأمتعة وعدت للوطن. من يصدق أن ينتقل ابن نيويرك ليعيش في دير غسانة بعد انغراسه في هذه البلاد لأكثر من ثلاثين سنة. عدت إلى القرية لتسكن في "علّية" قديمة أعدت ترميمها لتفي بالحد الأدنى المطلوب لحياة بسيطة عادية. الرام ورام الله ودائرة المغتربين كانت مجالك الحيوي الذي أبقاك على اتصال بالجالية العربية الفلسطينية فكنت تتنقل بين رام الله ونيويورك تقفز من مؤتمر إلى آخر ومن ندوة إلى أخرى ومن حفل لجمع التبرعات إلى مهرجان للتعبئة وحشد الهمم. كنت هنا وهناك. في كل مرة أنزل إلى رام الله أجد جدول أعمالك مزدحما بالأنشطة واللقاءات والزيارات. إذا خرج سجين كنت أول المهنئين، وإذا استشهد شاب كنت أول المعزين، وإذا هدم بيت كنت أول المتضامين وإذا خرج وإذا انطلقت مسيرة كنت أول المشاركين. بالضبط كما تفعل هنا في الساحة الأمريكية. لقد أطلقنا عليك لقب "مختار الجالية" عن جدارة، حيث لم ينحصر نشاطك في السياسة والتنظيم والعمل الطلابي، بل تجاوزه إلى حل خلافات الناس والتوسط بين الأصدقاء ومساعدة الشركاء في تجارة على حل خلافاتهم. ديدنك العمل المتواصل وكلمة مستحيل لم تجد لها سبيلا إلى قاموسك.

(6)
أعرف أنك كنت تعشق درويش وشعره خاصة الإطلالات الأولى. وأود أن أذكرك بقصيدة الأرض التي كنا نستمتع بقراءتها مرة وراء مرة، وكأنني بك تستمتع بها من جديد:

يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرضُ في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمروا

لك مني يا رفيق العمر باقة من الحب والإخلاص لا تنضب مع الأيام. لك الرحمة ولذويك وأصدقائك ورفاقك الصبر والسلوان.

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز

د. عبد الحميــد صيام