ما من شيء يفطر القلب ويدميه ويجعله مليئاً بالجزع أكثر من رؤية شاب في مقتبل العمر يحرق جسده لإعلان رسالة منعه واقعه والظروف التي تحيط به من إعلانها دون حرق للنفس احتجاجا على حالة يعاني منها بفعل الغير,فقد لاحظنا في الاونة الاخيرة بان تزايدا ملحوظا في حالات الإنتحار بين صفوف الشباب الغزي ,حيث تم تسجيل عشرات لحالات الانتحار تسببت بوفاة ثمانية منها منذ مطلع العام ,كان اخرها يوم امس الاول لشاب في مدينة خانيونس , فهل اجرى المختصون دراسة عامة حول الأسباب المتزايدة في معدلات الانتحار ؟, وهل يمكن لنا ان نقول بأننا امام ظاهرة انتحار في غزة بسبب ما الت اليه الاوضاع السياسية من تردي على كافة المستويات الاقتصادية منها والنفسية ؟, ام انها حالة عابرة وان الصدفة فقط هي التي لعبت دورا كبيرا في اظهارها وكأن الانتحار بغزة اصبحت حالة ظاهرة لتزامنها في وقت واحد تقريبا؟.
صحيح ووفقا لما هو معلوم بان حالات الانتحار لها دوافع وأسباب لارتكابها وهي حتما اسباب نفسية التي تدفع الأشخاص للانتحار ,ووفقا لما اشار اليه اختصاصيو الطب النفسي عند دراسة الاسباب الموجبة للانتحار فان الاكتئاب العقلي والاضطراب النفسي هو احد هذه الاسباب بل وأهمها، وهي امراض نفسية يشعر بمقتضاها المريض أنه السبب في كل ما يتعرض له من مآسي وأوجاع مما يجعله في مكان يعتقد بأن انهاء حياته سيضع حدا لتلك المآسي,وعادة فان هذه الامراض تصيب شخصيات تعاني من الهشاشة النفسية عقب تعرضها لأزمة تعجز عن إيجاد حل لها، وهنا يفكر المنتحر في طريقة استعراضية ينهي بها حياته كي يلفت أنظار المجتمع إليه ,لأنه يحمل هذا المجتمع مسئولية ما آلت إليه أموره ويريد ان يلفت بذلك نظر الناس لقضية ليتبناها ,ويريد أن ينتصر لها ايضا لدرجة تفقده عقله وتجعله يقرر إنهاء حياته، كما فعل البوعزيزي في تونس .
وعند العودة الى البحث عن اسباب حالات الانتحار في قطاع غزة للوقوف على ما ذكره المختصين عن الانتحار بشكل عام , فانه وللأسف لم اجد ,ورغم محاولاتي في ايجاد تفسير لتلك الحالة ما يُذكر من أصحاب الاختصاص النفسي , ولا حتى الامني عن دوافع المنتحرين وخاصة مع غياب الانتحار عن ثقافتنا الفلسطينية, حتى انني لم اجد ايضا ما يتعرض لتحقيقات النيابة لإبراز ذلك للرأي العام الفلسطيني على الأقل , ليس من باب التشهير او التسلية ,وإنما من باب وضع الأسباب امام جهات الاختصاص لدراستها وتقديم الحلول ومنعها من الوصول لتصبح ظاهرة يصعب السيطرة عليها.
صحيح بأنني اتفق مع ما ذكره ذوي الاختصاص بان الاكتئاب العقلي هو من اهم دوافع حالات الانتحار وتزايد معدلات حدوثها ,وهذا نفسه ما يجعلني اعتقد اننا مقبلون في قطاع غزة على ظاهرة انتحار احتجاجي إزاء الأوضاع التي يعاني منها القطاع حاليا لأنه لا فرصة امام الشباب للإعلان عن احتجاجهم إلا بما يملكونه من ارواح ,إلا انه لا بد من الوقوف امام تنامي حالات الاكتئاب لدى الشباب ,وكيف لا وانأ الذي اعيش بينهم وأتحسس آلامهم واسمع منهم بشكل يومي وهم يتحدثون عن مشاكلهم بأنه لم يتبقى أمامهم إلا ان يقتلون انفسهم مع تحميل ابائهم مسئولية ولادتهم لتركهم يولدون للعيش في ظل هذه الظروف دون مساعدة او مساندة ,وذلك بسبب الشعور بالعجز وفقدان الأمل بالمجتمع الذي يعيشون به وعدم وجود افق نحو حياة افضل.
لقد سيطرت ثقافة قتل النفس وللأسف على كثير من عقول الشباب ,وخاصة لما احدثته حالة الانتحار بالحرق من انعكاسات على المجتمعات وفقا لما احدثه انتحار البوعزيزي التونسي مباشرة ,وذلك لأن الفلسطينيين شعروا بأن الحياة المهينة التي ارتضوها منذ سنوات ضاقت بهم ولم تعد ترتضيهم ,وخاصة ان معظم من اقدم على احراق نفسه هم من الجيل الشاب الذي وصل الى مرحلة من العجز والإحباط لعدم تحقيق ادنى مقومات الحياة مع تجاوزهم لمرحلة العطاء وتجاوزهم ايضا للعمر الافتراضي للوظائف الحكومية والخاصة ,وتلاشي فرصة ما يرتبط به الفلسطينيين من امل الالتحاق بالأجهزة الامنية ايضا لتجاوز اعمار قبولهم في صفوفها بفعل الانقسام ولا بديل امامهم لما يعاني منه القطاع من حصار على كافة المستويات في ظل عدم مقدرة أرباب الأسر ايضا على توفير ما يحتاجه أبناؤهم وتلبية رغباتهم إلا وضع حد لحياتهم، وهذا ما أدى باعتقادي إلى ميل هذا العدد منهم نحو الانتحار.
ككاتب ومواطن يعاني كما هم مما يعانون منه ,وان اختلفت ظروف كل منا ,فإنني المس ما يعانيه جيل الشباب من اكتئاب بفعل ما آلت اليه الأوضاع الحالية ,وهنا لا استغرب بروز ظاهرة الانتحار العمد, فأين هو الاعلام للتصدي لذلك ؟,وأين المسجد والمدرسة والبيت لتقوية الوازع الديني ؟, وأين هم الاكاديميون والكتاب ؟,ولماذا يغيب الاعلام عن تسليط الضوء على دراسة حالات الانتحار والوقوف على ملابساتها وأسبابها ايضا ؟,ومن هو المعطل لظهور اخصائيين في الطب النفسي على وسائل الاعلام المقروء منه والمسموع وحتى المرئي للإدلاء بدلوهم حول هذه الحالات؟, ام ان الوقوف امام هذه الظاهرة يعني الاعتراف بمسؤوليتهم عنها ولذلك هم عنها يتغاضون؟.
علينا أن نعترف بأن الانقسام وغياب الكتاب والإعلاميين والأكاديميين وذوي الاختصاص عن المشهد ,وعدم الوقوف امام هذه الظاهرة لدراستها وتقديم التوصيات لإيجاد حلول لها جنبا الى جنب مع رجال الدين هو سبب تحلل منظومة القيم الاجتماعية ,والتي غالبا ما يؤدي هذا الغياب والتحلل الى هروب الشباب من الحياة على طريقة قتل النفس بسبب عدم وجود نخبة تتولى الدفاع عن قضاياهم وهمومهم ,حيث ان قطاع غزة بفعل الحصار وانعكاساته من تردي على كافة المستويات ,ومن بينها انعدام التنمية وفرض الدكتاتورية بفعل الانقسام مع ما يجري ايضا من تحولات اجتماعية جديدة تساهم في اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء مما ينجم عنه ازدياد معدلات التهميش والاستبعاد والحرمان الاجتماعي التي غالبا ما يدفع ثمنه جيل الشباب وخاصة في ظل غياب الارادة السياسية ايضا وعدم تدخل الاعلام الأمني الذي يتطلب توظيفًا فعالاً لوسائل وأدوات الاتصال ,وذلك بسبب غياب وحدة وطنية تتبنى استراتيجية اعلامية وتنموية في اطار ديمقراطي يسود المجتمع حتى وان كنا في ظل الاحتلال فالتنمية والديمقراطية لا يتعارضان, وكلاهما لا يتعارضان ايضا مع وجود ألاحتلال ,حينها يمكن لنا الحد من تنامي ظاهرة الانتحار لا تزايدها ,فلا تنمية ولا ديمقراطية بغير امن, كما أن الأمن لا يتحقق بدون تنمية وديمقراطية ,ولا تنمية او ديمقراطية دون وحدة وإرادة سياسية ايضا.
كلمة اخيرة اقولها لكل اعلامي او كاتب وأكاديمي ,وحتى رجل دين بأنه مجرم كل من لم يحاكي هموم ومشاكل ابناء شعبه ,فالى متى الصمت عن حالات الانتحار بحرق الجسد,فان لم تتحدث ايها الاعلامي فاصمت الآن ,وليس غدا ,والى الأبد ,وان لم تصرخ الآن ايها الكاتب فلن يصل الى الحرية والكرامة أحد, وان لم تخاطب العقول ايها الاكاديمي الآن فاعلم ابقاء العيشة التي تذبل الكبد.. تحدث, ثم اصرخ او فاصمت وللأبد ,فهل وصلت الرسالة؟.
بقلم:ماجد هديب