حان الوقت كي تحاسب بريطانيا على جرائمها

بقلم: علي الصالح

 كأن الظلم الذي أوقعته على الشعب الفلسطيني على مدى أكثر من قرن وربع القرن ولا تزال عواقبه مستمرة، لا يكفي.
وكأن الذنوب والجرائم التي ارتكبتها بحقه في النصف الأول من القرن الماضي، من وعد بلفور المشؤوم واستعمار فلسطين 1920 وحتى 1948 والمساعدة في تنفيذ الوعد في إقامة دولة الكيان الصهيوني عام 1948 لا يكفي، وكأن قتل وتشريد ملايين الفلسطينيين جراء النكبة في أصقاع العالم، لا يكفي، وكأن الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي والمعنوي الذي قدمته لدولة الاحتلال على مدى عقود وجودها ولا تزال، لا يكفي.
وبدلا من أن تحاول بريطانيا التكفير عن ذنوبها والتعويض عن كل ما ألحقته بالشعب الفلسطيني، من ضيم وقتل وتشريد ومعاناة، تمعن في تنصلها من مسؤولياتها التاريخية تجاهه وتنكرها لحقوقه الوطنية والإنسانية، وحرمانه من حقه المشروع في الدفاع عن نفسه، حتى إن كان بالطرق السلمية اللاعنفية، يطل علينا رئيس الحكومة البريطانية ديفيد كاميرون بظلم جديد وإجحاف آخر ممثلا بقوانين جديدة تجعل من مقاطعة إسرائيل جريمة يعاقب عليها القانون في بريطانيا، قوانين جديدة لا يمكن إلا أن توصف بقوانين داعمة ومشجعة للاحتلال واستيطانه.
وأحد الأسباب الرئيسية لتمادي الحكومة البريطانية الحالية وسابقاتها، في غيها وعنصريتها وانحيازها المطلق لإسرائيل وللاحتلال، هو بالتأكيد غياب المُطالِب الفلسطيني بحقه من "الامبراطورية البريطانية"، كما فعل اليهود ومن ورائهم اسرائيل، مع المانيا بعد بشائع النازية، فحتى اللحظة ورغم مرور أكثر من سبعين عاما على هزيمة النازية لا تزال عملية الابتزاز مستمرة، ولا يزال الألمان جيلا بعد جيل يدفعون ثمن جرائم هتلر. والتعويض الذي تتلقاه اسرائيل لا ينحصر في التعويض المالي فحسب، بل العسكري والسياسي والمعنوي. فقبل أيام، اشترطت برلين على طهران اعترافا ايرانيا بإسرائيل مقابل تطبيع العلاقات بين البلدين.
وليتعلم الفلسطينيون من الكينيين الذين تعرضوا لإجراءات تعسفية وقمعية وتعذيب واغتصاب إبان ثورة الماو ماو بقيادة جومو كنياتا، ضد المستعمرين البريطانيين والمستوطنين البيض من عام 1952 حتى عام 1963. وها هم الآلاف منهم، يرفعون قضية ضد الحكومة البريطانية على الجرائم التي ارتكبت ضدهم في حينه، يطالبون فيها بتعويضات بمئات ملايين الجنيهات الإسترليني. والحديث هنا عن تعذيب واغتصاب لا نقلل من شأنه، ولكنه ليس تشريدا وتهجيرا واقتلاع شعب من أرضه، إضافة للقتل والتعذيب والإجراءات التعسفية، مثل الاعتقال الإداري الذي ورثته اسرائيل عن الانتداب وتمارسه ضد الفلسطينيين، وآخرهم الصحافي الأسير محمد القيق، المضرب عن الطعام منذ حوالي 90 يوما وهو بين الحياة والموت.
ويشجع الحكومات البريطانية المتعاقبة على عدم التفكير مرتين في إلحاق مزيد من الظلم على الفلسطينيين، هو بالتأكيد التقاعس الفلسطيني وغياب المطالبات والدعوات والتحركات الحقيقية، سواء على الصعيد الرسمي أو الشعبي، لوضع الحكومات البريطانية أمام مسؤوليتها التاريخية والاخلاقية والسياسية وتحميلها مسؤولية جرائمها، بمقاضاتها، إن استدعى الأمر امام محكمة الجنايات الدولية وحتى أمام محاكمها، على كل ما ألم بالشعب الفلسطيني جراء وعد بلفور وما لحقه من انتداب دام قرابة 3 عقود، تعرض خلاله الشعب الفلسطيني لشتى أنواع العذاب والاضطهاد، واختتمت بقيام الكيان الصهيوني وما نجم عنه من قتل وتشريد مئات، بل ملايين الفلسطينيين واقتلاعهم من منازلهم وأراضيهم، وما لحق بهم من سياسات عدوانية جراءها على مدى عقود عديدة لاحقة.
ورغم كل ما قدمته للكيان الصهيوني فإن الحكومات البريطانية المتعاقبة لا تتردد في اتخاذ أي اجراءات، وإن كان ذلك على حساب ما تدعو اليه من قيم ديمقراطية الخ، خدمة لمصالح هذا الكيان، فلا تتردد بالدعس على كل المبادئ التي تتغنى بها، ولا يرمش لها جفن وهي تعمل على كتم أفواه مواطنيها والضرب عرض الحائط بديمقراطيتها وحقوق الانسان وحرية الرأي والتعبير والقوانين الدولية التي تخرقها اسرائيل صباح مساء.
وفي هذا السياق تعمل الحكومة البريطانية، كما ذكرت صحيفة "الأندبندنت"، نحو جعل مقاطعة إسرائيل جريمة يعاقب عليها القانون بالنسبة للمؤسسات الحكومية والمجالس البلدية، وحتى الاتحادات الطلابية في بعض الجامعات، كجزء من حملة تعد لها الحكومة ضد حملات مقاطعة اسرائيل، وتبرر الحكومة هذه الإجراءات بأن المقاطعة قد تلحق الضرر بالعلاقات المجتمعية الجيدة، وتسمم الأجواء، وقد تؤجج معاداة السامية، ولكن هذه الحكومة، لا ترى خطأ قي تأجيج الإسلاموفوبيا والتحريض على المسلمين في بريطانيا بسبب أفعال حفنة من الفئة الضالة.
ويأتي قرار الحكومة البريطانية هذا، نجدة لإسرائيل التي فقدت ماكنتها الدعائية وأذرعها الإعلامية ومنظماتها الصهيونية وسفاراتها، الحيلة والوسيلة أمام زحف حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها المعروفة دوليا بـ"BDS"، في الساحات الخارجية التي كانت تعتبرها حكرا عليها. فبعد عشر سنوات تقريبا على انطلاقة حركة المقاطعة في فلسطين و8 سنوات على انطلاقتها الدولية من غسبانيا، يمتد نشاط BDS إلى كل اركان المعمورة، لا سيما الولايات المتحدة، وحققت نجاحات أفقدت إسرائيل وأنصارها وحلفاءها في المؤسسات الرسمية الغربية صوابهم. وكان آخر هذه النجاحات العظيمة، إلغاء وزارة الدفاع الفرنسية قبل أيام على الأقل علنيا، عقدا مع شركة "البيت" الإسرائيلية، لشراء طائرات من دون طيار. وجاء قرار وزارة الدفاع الفرنسية المفاجئ بعدما تمكنت حركة المقاطعة في فرنسا من جمع تواقيع 8 آلاف شخصية عامة تطالب بوقف هذه الصفقة.
هذه الإجراءات التي اتخذتها الحكومة البريطانية وقد تتخذها حكومات غيرها، لن تنجح في وقف المد الجماهيري الذي تحققه BDS عالميا، واصبح متجذرا شعبيا بدعم شخصيات عامة أكثر شعبية من هؤلاء السياسيين الفاقدين للشعبية أصلا، وأذكر من هذه الشخصيات، على سبيل المثال لا الحصر، روجر والتر الفنان البريطاني قائد فرقة بنك فلويد الذي أخذ على عاتقه إقناع فناني العالم بمقاطعة اسرائيل فنيا، وقد حقق نجاحات كبيرة. وهذا ما يجعل اسرائيل تعتبره من ألد اعدائها. وهناك أشهر علماء الفيزياء في العالم البريطاني ستيفن هوكينغ الذي قاطع مؤتمر الرئيس الاسرائيلي السابق شيمعون بيريز عام 2013. ودعا ايضا إلى فرض مقاطعة اكاديمية على إسرائيل بسبب ممارساتها العدوانية ضد الشعب الفلسطيني واستمرار احتلالها لاراضيه. والمخرج السينمائي البريطاني مايك لي أحد اشهر ثلاثة مخرجين في العالم بعد إخراجه سلسلة افلام هاري بوتر. وكذلك الموسيقار البريطاني المشهور في عالم الروك الفيس كوستيلو. ولا بد من الإشارة إلى الكاتبة الامريكية أليس ووكر التي رفضت في 2012 نشر روايتها "اللون الأرجواني" الحائزة جائزتين عالميتين في إسرائيل، وشاركت بزيارة تضامنية إلى قطاع غزة عام 2009 مع عدد من الوجوه النسائية العالمية. يضاف إلى ذلك مئات النقابات العمالية والأكاديميون والفنانون واتحادات الطلبة، اذكر منها على سبيل المثال فقط اتحاد الناطقين بالفرنسية في بلجيكا الذي ينتسب إليه قرابة 100 ألف عضو.
فدولة الاحتلال الاسرائيلي التي كانت الحليف الرئيسي لنظام التمييز العنصري في جنوب افريقيا، ومن قبله النظام العنصري لما كان يسمى بروديسيا، زيمباوبوي اليوم، تدرك جيدا خطورة سلاح المقاطعة الذي نجح في نهاية المطاف إلى إسقاط نظام دي كلارك الذي كانت تدعمه حكومات بريطانية أيضا. ورغم الجهود الحثيثة التي تبذلها عبر أذرعها الاعلامية في اوروبا والولايات المتحدة وسفاراتها والمنظمات واللوبيات الصهيونية المنتشرة في العالم، ورغم النفوذ المالي لليهود في العالم، فشلت دولة الاحتلال في صد طوفان حركة المقاطعة التي تزداد قوة ومتانة يوما بعد يوم وتتسع رفعة نجاحاتها. وبعد أن فقدت الحيلة والوسيلة لاسيما في الجامعات التي تعتبرها مصدر الخطر الأكبر، على اعتبار أن الأجيال الشابة التي كانت إسرائيل تعول عليها كثيرا في السابق وتنشط في أوساطها عبر الاغراءات والرحلات السياحية والتثقيفية المجانية إلى "الديمقراطية الوحيدة" في الشرق الأوسط، هي التي ستكون في مواقع الحكم في غضون عقدين أو ثلاثة، وهنا مكمن الخطورة، فخسارة هذه الأجيال يعني خسارة اسرائيل للرافد الاساسي لوجودها، فحركة المقاطعة تجد آذانا صاغية في اوساط الشباب المتحرر من عقد النازية وحروب القرن الماضي والرافض للابتزاز الذي مارسته الصهيونية على مدار 60 عاما ولا تزال تحاول ممارسته. وأصبحت تهمة اللاسامية كالاسطوانة المشروخة ولم تعد تخيف الرأي العام، كما كان الحال في القرن الماضي، فأجيال القرن الواحد والعشرين هم غير أجيال خمسينيات وستينيات القرن العشرين.
لا يموت حق وراءه مطالب، ولكن كما يبدو فان المُطالِب الفلسطيني يبدو غائبا حتى الآن، ولهذا تتصرف الحكومة البريطانية الحالية وسابقاتها، من دون أي اعتبار للشعب الفلسطيني رافضة الاعتراف بالظلم الذي أوقعته عليه، ومن دون احترام لحقوقه حتى في حق المقاومة اللاعنفية.
وإلى أن يتعلم الفلسطينيون كيف يحترمون حقوقهم ويدافعون عنها بكل ما أوتوا من قوة، ستبقى الحكومة البريطانية الحالية كما سابقاتها وغيرها من حكومات العالم تتنكر لهذه الحقوق.
حان الوقت لكي تجبر الحكومة البريطانية على تحمل مسؤوليتها ودفع ثمن جرائمها التاريخية، الطريق لن يكون مفروشا بالورود ولن يكون سهلا بعد كل هذه العقود. ولكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"

علي الصالح