عاد حزب العمل الإسرائيلي في مؤتمره الأخير، إلى بعض ملامح ما كان يسمى "الحل الوسط" الذي كان ينادي به منذ تسعينات القرن الماضي، بافتراقه عن مسار الحكم الذي هيمنت عليه أحزاب الائتلاف اليميني، وذلك عبر قراره منع الوصول إلى واقع "الدولة الواحدة"، والدفع بدلاً من ذلك باتجاه التوصل في نهاية الأمر إلى رؤيا "الدولتين"، بإقراره ما يسمى "خطة الانفصال" حيث خاض نقاشاً واسعاً حولها، كونها تسعى لتسليم العديد من المناطق في الضفة الغربية وبعض أحياء القدس الشرقية إلى السلطة الفلسطينية، إضافة إلى إتمام بناء جدار فصل آخر حول المستوطنات القائمة في الضفة الغربية.
وأضاف القرار، أنه في موازاة ذلك ستُنقل صلاحيات مدنية إلى السلطة الفلسطينية، وتوسيع المناطق B الخاضعة لسيطرة أمنية إسرائيلية وسيطرة مدنية فلسطينية، "على حساب المناطق الخاضعة اليوم لمسؤولية إسرائيلية". وحول القدس الشرقية، قرر حزب العمل أنه سيعمل من أجل فصل عشرات القرى الفلسطينية المحيطة بالقدس عن منطقة نفوذ البلدية.
وعلى رغم أن هذا المقترح، لا يعني بالضرورة الانسحاب الكامل من الضفة الغربية، إلا أن المصادقة على هذه الخطة المشابهة لما يعرضه نتانياهو في "مفاوضات السلام" هو انتصار لهرتسوغ على منتقديه، الذين يقولون إنه لا يملك توجهاً أو خطاً سياسياً واضحاً.
من جهته كان الوزير السابق عن حزب العمل حاييم رامون قد قاد حملة متواصلة في الفترة الأخيرة في الصحف الإسرائيلية، للدعوة إلى إقامة سور فصل عنصري آخر، يكمل السور العنصري الكبير الذي أقامته إسرائيل منذ سنوات، كي يفصل بين حدود بلدياتها والبلديات الفلسطينية، مما سيسهل مصادرة المزيد من الأراضي الفلسطينية، علماً أن جدار الفصل العنصري الأول استحوذ على نحو 10 في المئة من الأراضي الفلسطينية في الضفة.
وبهذا عملياً تشكل أفكار وخطط الفصل المقترحة، الخطوط العريضة للخطة السياسية التي يعرضها حزب العمل. ما دفع جدعون ليفي من موقع النقد والتعارض مع أطروحات حزب العمل (هآرتس 8 شباط/فبراير 2016) للتعليق على موضوعة الفصل بالقول إنه "في الوقت الحالي: الفصل. اللعبة القديمة الجديدة لهرتسوغ والتي تتميز بالعنصرية: هم هناك ونحن هنا، كما عبر عن ذلك ايهود باراك. "أنا أريد الانفصال عن أكبر عدد من الفلسطينيين في أسرع وقت ممكن"، كتب هرتسوغ في الخطة التي وزعت في كراسة بما في ذلك بعض التقييمات التي تؤيدها بالذات من الصحافيين في اليمين، "هم هناك ونحن هنا. نبني جداراً كبيراً بيننا. هذا هو التعايش الممكن الآن"، حيث قال هرتسوغ كلمة فصل عشرين مرة في خطابه. الفصل فقط يحافظ على الأمن، الفصل فقط يحافظ على القدس يهودية، الفصل فقط سيؤدي إلى مؤتمر إقليمي".
صوت آخر من أصوات حزب العمل المؤيدة (أفرام سنيه في هآرتس 17/2/2016) بادر بالقول: حينما تحدثنا مع الفلسطينيين عن الحل في التسعينات، أوجدنا مصطلح "أريحا أولاً" و"غزة أولاً". أما الخطة الجديدة لحزب المعارضة فهي تقول "القدس أولاً". الأمر الذي يوجب تثمين الجرأة السياسية التي صيغت بها. وإذا تم تنفيذ الخطة ـ ومعظم سكان إسرائيل يؤيدون فصلاً كهذا، يمكنه أن يتيح التقدم من أجل تطبيق الحل الذي لا بديل له (حل الدولتين) وفق سنيه، الذي يرى أن على المجتمع الدولي والدول التي تلتزم بمبادرة السلام العربية، تبني وتأييد خطة الفصل في القدس. وليس هناك الآن أي اقتراح عملي أكثر من شأنه أن يـوقـف التدهور الذي سيتسبب بالكارثة للشعبين".
هكذا وأمام الانسداد الراهن للمفاوضات والحل السياسي، لم يبق أمام المعارضة الإسرائيلية سوى اجترار ما كانت تتبناه قبل ربع قرن، مع إضافات مراجعة موضوعة الانفصال وعودة التأكيد على بناء المزيد من جدران الفصل العنصري، وهي تعرف قبل غيرها أن إمكانية حل التسوية الراهن ليس منظوراً في الأفق، جراء ما تثيره حكومة ائتلاف اليمين المتطرف من غيوم كثيفة ومواقف متباينة، لا تسعى إلا إلى تأبيد الوضع الراهن، كونه الأنسب لها لتحويل الدولة أو الكيان إلى "دولة يهودية" نقية، في معزل عن الوقت الذي يمكن أن تستغرقه هذه العملية، وذلك على الضد من "حل الدولتين" أو حل "الدولة الواحدة ثنائية القومية". وحتى لو استطاعت في الغد تشكيل "حكومة عمل" منفردة وهذا مستبعد، أو حكومة ائتلاف وسط، فلن يكون بإمكان المعارضة الإسرائيلية، حالها حال الائتلاف اليميني الراهن، العبور بالتسوية وفق أي صيغة إلى بر الأمان، في ظل تباينات الرؤى وتضارب المواقف السياسية والحزبية، وتلاشي إجماعاتها، إزاء قضية من أعقد قضايا العصر، في وقت فقدت الثوابت الوطنية الفلسطينية في المقابل إجماعاتها المفترضة، بفعل ميوعة المواقف القيادية المركزية والفصائلية.
* كاتب فلسطيني