عن نتنياهو و"خطاب المقصّ" عماد شقور

بقلم: عماد شقور

نجح رئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو في هز قناعتي بنظرية آمنت بها منذ عقود عديدة. هذه النظرية هي ان من الحكمة ان يكون صاحب القرار بفتح النار شخصاً آخر غير حامل السلاح نفسه.
ذلك ان البداية الاولى لتشكُّل هذه القناعة لدي، كانت أيام الطفولة وبداية مرحلة الفُتوَّة. في تلك المرحلة كنت تلميذا في الصفوف الأولى في المدرسة الابتدائية في سخنين. لم تكن الطريق من بيتنا إلى المدرسة معبّدة. وكثيرا ما كنت اعثر وأنا في الطريق إلى المدرسة،على عود مستقيم او شبه مستقيم، التقطه فيتتحول في يدي إلى عصا، او ما يشبه العصا. وفور ذلك تبدأ تلك العصا للتحول إلى أداة عنف، لا مبرر منطقيا له. تُصبح كل حصوة على الطريق أمامي هدفا لعصاي. منها ما أصيب ومنها ما أفشل في إصابته، بدون ان يشكِّل الفشل مبررا كافيا لي للاقلاع عن هذه "الرياضة". بل ربما كان ذلك دافعا للإمعان في هذا التصرف الطفولي، حيث تصبح كل فراشة جميلة الأجنحة، بديعة الطيران والتحليق، هدفا للعصا في يدي. ومثلها في ذلك كل غصن زيتون على طريقي، وكل زهرة لوز ناصعة البياض، وكل اقحوانة او واحدة من شقائق النعمان، حيث يصبح قطعها بعصاي، وليس الاستمتاع بجمالها ورائحتها، هو ما يجلب لي المتعة.
في تلك المرحلة من العمر، بدأت تتشكل لدي قناعة بأن من يمسك "السلاح"، تتغير طبيعته، وتتغير نظرته للأمور والأشياء، وكذلك أسلوبه في الحياة، حيث يصبح كثير الميل للشراسة والعنف والعدوانية، حتى مع انعدام وجود مبرر منطقي لاستخدام العنف. ثم لما كبرت، قرأت حكمة انجليزية تقول ما معناه: "عندما يمسك الانسان بمطرقة (شاكوش)، يعتقد ان كل مشكلة تواجهه هي مسمار". في هذه المرحلة من العمر، ترسخت لدي تلك القناعة تماما، وتوسع مفهوم "السلاح" ليشمل كل أدوات العنف، سواء كانت تلك الاداة عصاً او سكيناً، مسدساً او صارخاً او قنبلةً ذرية.
متابعتي لأحداث الاسبوع الماضي في اسرائيل، هزت هذه القناعة، رغم ترسخها وعُمرها المديد.
ذلك ان "حامل سلاح اسرائيل"، إذا صح التعبير، والمتعارف على تسميته "رئيس هيئة اركان الجيش الاسرائيلي"، غادي آيزنكوط، المعروف عنه انه قليل الكلام والتصريحات، القى خطاباً قبل ايام في مدرسة ثانوية في بات يام، جنوب تل ابيب، قال فيه كلاما كثيرا على مدى خمس وعشرين دقيقة، لتلاميذ على بُعد خطوة، (او قل على مرمى عصا، طالما بدأنا كلامنا بالعصي)، من انتهاء تعليمهم الثانوي، وانخراطهم، (او انخراط غالبيتهم)، في الخدمة العسكرية الإلزامية لنحو ثلاث سنوات، قبل متابعتهم التحصيل الأكاديمي او العمل المهني.
في فقرة ما بعد الخطاب المكتوب الذي ألقاه آيزنكوط، وحين بدأ دور الاسئلة والإجابات، وقف تلميذ اسمه يوفال بولاك، (17 سنة)، وسأل قائد الجيش الاسرائيلي: "قواعد إطلاق النار ليست واضحة بما فيه الكفاية، إلى درجة انها تعرض حياة الجنود للخطر. فهل حان الوقت لتحديث تلك القواعد؟ ثم، أليست حياة جنودنا أكثر أهمية؟". وهنا توسّع ايزنكوط في الجواب، وتحدث لخمس دقائق كاملة، (تعادل 20٪ من خطابه الأساسي). وكان من بين ما قاله: "لا أُريد ان أرى جندياً في جيش الدفاع الاسرائيلي يفرغ مشط بندقيته في جسد فتاة، عمرها 13 سنة، تحمل مقصاً" (!!).
اختزل الإعلام الاسرئيلي كل هذا الموضوع بتسمية خطاب آيزنكوط بـ"خطاب المقصّ". وقامت الدنيا في اسرائيل ولم تقعد بعد.. إذ: كيف يجرؤ رئيس اركان الجيش ان يغمز من قناة نتنياهو، ومن هم على شاكلته من غلاة العنصريين الاسرائيليين، الذين يُحرِّضون على العرب، وخاصة الفلسطينيين في اسرائيل، والفلسطينيين في الضفة الغربية، (ومنها القدس)، وقطاع غزة؟
وتتبين الحقائق لاحقاً، ثم تتوالى التحليلات لسبر كُنه "جرأة" آيزنكوط. من تلك الحقائق، ما كشفته مقابلة أجراها موقع جريدة "يديعوت احرونوت" الالكتروني، مع التلميذ بولاك حيث قال هذا، إنّ "اوساطاً" في المدرسة أعدّوا صيغة السؤال مسبقا، وانه تم اختياره هو لإلقاء السؤال، حيث يعني ذلك ان السؤال لم يكن بريئا، ولا كان من إعداد تلميذ او تلاميذ، بل ان من صاغته هي "اوساط" في المدرسة، هم من الادارة او المعلمين، الموكلة لهم، بطبيعة الحال، مهمة رسم وتشكيل قناعات وقِيَم تلاميذهم. ومن تلك التحليلات، ان سرّ "جرأة" آيزنكوط، في التحدث علناً، عن كيفية قتل طفلة فلسطينية، وبما يمكن ان يُشتمَّ منه وكأنه نوع من "الرأفة" (لا سمح الله)، هو انه لا طموحات سياسية له. فهو (كما يقول اسرائيليون اصدقاء له)، لا يريد ان ينافس في أي انتخابات، ليكون رئيسا للحكومة او وزيرا لـ"الدفاع". ولهذا فهو طليق اللسان بما يعرفه كل شبه عاقل مُتّزن، ولا يُعجِب غلاة العنصريين في اسرائيل.
ومن خبراتنا المتراكمة نعرف ان الغالبية العظمى من اصحاب المناصب العليا في اسرائيل لا يقولون الحق (ولا بعضه ايضا)، إلا بعد انتهاء دورهم، وانتهاء اشغالهم لمناصبهم في تحديد السياسة واتخاذ القرار، وذلك لأسباب أنانية تماماً، حيث لا يريدون ان يسجِّل عليهم التاريخ انهم هم الذين "فرّطوا" بحلم "ارض اسرائيل" وبحلم "شهادة الطابو" التي وقعها ابراهيم الخليل (شخصياً) مع الله سبحانه وتعالى (شخصياً)، كما يقولون، (مستندين إلى روايات التوراة)، في تبرير غزوهم واحتلالهم للجزء الأكبر من أرض فلسطين، واستعمارهم لما تبقى منها.
نتنياهو ومَن هم على شاكلته، يحرضون جمهورهم اليهودي في اسرائيل، اليميني أصلا في غالبيته، ويزرعون في عقول الاسرائيليين الخوف من كل ما هو عربي وفلسطيني بشكل خاص، ثم يتنافس المرشحون في كل انتخابات في العقد الاخير بشكل خاص، باظهار مدى تطرفهم ضد الفلسطينيين في اسرائيل وفي مناطق الاحتلال، فيحصدون أصوات من حرضوهم. وتتوالد من ذلك حلقات جهنمية من التصعيد العنصري وسياسة العنف والبطش والطغيان. وتغذي تلك الحلقات بعضها بعضا، في مسلسل دموي لا ينتهي.
هذا الجو الموبوء، يجعل من يقول ان لا حاجة لتفريغ رصاصات "مشط كامل"، (اذ يمكن ان يُفهم ان عددا من رصاصات المشط تفي "بالغرض")، في جسد فتاة عمرها 13 سنة، ويفصلها، حاجز اسمنتي او حاجز اسلاك شائكة عن جندي احتلال، مدجج برشاش وأمشاط رصاص، وبخوذة وسترة واقية، هدفا لهجوم أرعن من غوغاء، يشغل بعضهم أعلى المناصب القيادية في اسرائيل. بل اكثر من ذلك، ان غالبية الجمهور اليهودي في اسرائيل، يرى في كلمات "خطاب المقص"، حاجزا يحول بين من يجرؤ بقولها، والأخطر من ذلك ان يقولهاعلناً، وإمكانية اشغاله مستقبلا لأي منصب قيادي، تمر طريقه عبر الانتخابات.
حق هو ان أُعدِّل قناعتي التي رافقتني كل هذه العقود من السنين. فمن كان رأسه محشوا بكمٍّ هائل من العنصرية والحقد والكراهية، ومن الخوف من الآخر، ويمتلك "موهبة" القدرة على نقل خوفه إلى جمهوره، وتحويل ما في عقله من خوف وتخويف إلى مرض معدٍ ووباء، هو في الواقع أخطر على عدوه وخصمه وجاره وشعبه، وعلى نفسه ايضا، من حامل السلاح. وهكذا هو نتنياهو، الذي انتظر اربعة ايام متواصلة، لإصدار بيان مقتضب "يشبه" الدفاع عن رئيس أركان جيشه، الذي تعرض لسيل جارف من التهجمات والانتقادات، ممن حرضهم ويحرضهم نتنياهو، وأحدهم هو الوزير الجالس إلى يمينه مباشرة في جلسات حكومته.
ليس هذا دفاعا عن رئيس أركان الجيش الاسرائيلي، الذي يستعمر الضفة الغربية، ومنها القدس العربية، ويحاصر قطاع غزة من خمس جهات، حصارا ظالما هو في قسوة الاحتلال نفسه. انه توضيح لصورة ما يعانيه الشعب الفلسطيني من جيش احتلال وعصابات مستعمرين يحميهم ذلك الجيش، ويخضعون جميعهم لأوامر حكومة موغلة في العنصرية.
رئيس حكومة اسرائيل، "بطل "اتهام الفلسطينيين بالتحريض على العنف، وحكومته اليمينية العنصرية، أشد خطرا وقسوة ورعونة، من جيش الاحتلال نفسه، المشبع هو ايضا بالعنصرية وبالسلاح إلى ما بعد التخمة.
رحم الله الفتاة الفلسطينية هديل عواد، (13 سنة)، التي ربما ان تكون "هاجمت" الاحتلال الاسرائيلي، "مدجّجة" بمقص، محاوِلة ببراءة طفولتها، وبسذاجتها، الانتقام لدم شقيقها الاكبر محمود (28 سنة)، الذي قتله جيش الاحتلال الاسرائيلي قبل عامين، و"وهبت" الاسرائيليين قصة انجبت لهم "خطاب المقص"!

٭ كاتب فلسطيني

عماد شقور