دعيت لإلقاء محاضرة في ذكرى نكبة فلسطين في أحد مساجد نيوجرزي. وكان يشاركني المنصة شيخ أزهري شاب قدم حديثا من مصر. بعد كلمتي السياسية التحليلية جاء دور الشيخ فراح يغرب ويشرق في خطاب عنصري يفوح بالحقد والكراهية والتحريض، ويجرم كل من انتمى لدين معين، واضعا الكل في سلة واحدة، ثم أطلق عليهم أحكاما وأوصافا ترقى لمستوى جريمة التحريض، التي تلقي بصاحبها في غياهب السجون.
بعد أن انتهى من خطبته العصماء قلت أمام الناس: إنني أباعد نفسي عن هذا الخطاب العنصري. ومن يقوله إما أن يكون مرتبطا بأجهزة المخابرات ليعرف مَن مِن الشباب يتجاوب معه أو مرتبطا بفكر "القاعدة" وأخواتها لتجنيدهم. وقلت أمام الحضور أنا لست ضد أحد بناء على دينه أو عرقه أو لونه أو جنسه، بل ضد من يحتل بلادي أو يساعد على احتلالها، سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما. وأستطيع أن أسمي لكم العديد من المسلمين، ومن بينهم قيادات معروفة ألحقوا الأذى بفلسطين وشعبها أكثر بكثير من غير المسلمين. ودعني أحيي من هذا المنبر العديد من اليهود الذين يدافعون عن عدالة القضية الفلسطينية، وأذكر منهم نعوم شومسكي ونورمان فنكلستين وفيلس بينس ويوري ديفس وآدم شابيرو وإلان بابي والمحامية فيليتسيا لانجر وريتشارد فالك ويوري أفنيري والقائمة تطول، بل إن هناك قيادات مسيحية من الشعب الفلسطيني والعربي أتشرف بها وأجلها وأعتبرها مثالا يحتذى في النضال والصلابة والتمسك بالمبادئ أكثر بكثير من بعض القيادات الرخوة التي صدف، أنها تنتسب للإسلام. وافقني من كانوا في المسجد، حيث انسحب الشيخ من المشهد بهدوء. التقينا صدفة بعد عدة سنوات وعرفني بدون أن أعرفه فاقترب مني وذكرني بالحادثة قائلا: أنا مدين لك. لقد علمتني درسا لا يمكن لي أن أنساه. كنت حديث العهد ولا أعرف الكثير، ولولا الحرية التي توفرها لنا هذه البلاد لما تمكنا من الحديث بحرية حول ديننا ولما استطعنا فتح المساجد والمدارس العديدة. فكيف لي أن أستمتع بالحرية وثمارها وأمنعها عن غيري؟
الدور الأمريكي في نشر الفكر المتطرف
تلك الحادثة فتحت عينيّ على نوع التعليم والتلقين الذي يتلقاه طلبة العلوم الدينية في المدارس وكليات الشريعة وأصول الدين في بعض البلاد العربية، حيث انتقل هذا الفكر المتعصب والمتطرف إلى العديد من مساجد الولايات المتحدة، التي انتشرت وبطريقة لا يمكن أن تكون عفوية. لقد بدأت الإدارات الأمريكية ابتداء من عهد ريغان تشجيع ما سمي بـ "الجهاديين" أيام الغزو السوفييتي لأفغانستان، من أجل التوجه نحو ساحة الجهاد، وبتمويل سعودي وتدريب باكستاني. وما هي إلا سنوات لا تزيد عن العقد الواحد وإذا بالولايات الأمريكية الخمسين تحتضن العديد من المساجد والمدارس الإسلامية وأصبح التنافس بين الأغنياء على من يبني مسجدا أكبر أو أجمل وكان بعض خطباء المساجد يرفعون شعارا يقول "طريق القدس تمر من كابل".
تلك الأيام شهدت انطلاق الجماعات المتطرفة التي تحمل مثل هذا الفكر العنصري الشوفيني المتطرف القائم على تجريم الآخر وتهميشه، أيا كان كمقدمة لاجتثاثه. والآخر يعني كل من يختلف معهم في فهمهم الضيق والمتزمت للإسلام. فالتعصب قد يكون موجها في البداية ضد المختلفين مع أصحابه عقائديا، وسرعان ما يرتد ليشمل أي نوع من الخلاف الديني أو الإثني أو المذهبي أو العرقي.
التعصب والتمييز في القانون الدولي
اعتمدت الأمم المتحدة عام 1965 أولا الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز والعنصرية التي دخلت حيز النفاذ في ديسمبر عام 1969 ثم لحق بها العديد من الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بالعمل على مناهضة وتجريم وحظر واجتثات التمييز والتعصب وكراهية الأجانب والأقليات والعمال المهاجرين والسكان الأصليين والمرأة وغير ذلك. وأصبح الآن بين أيدينا العديد من المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي شارك في صياغتها ومناقشتها واعتمادها كل الدول بدون استثناء، بما فيها التي تصدر مثل هذا الفكر.
الإعلان العالمي الذي اعتمدته الجمعية العامة عام 1981، ينص على أن لكل فرد الحق في حرية التفكير والوجدان والدين الذي يختار، وله الحق في إظهار دينه أو معتقده، ولا يجوز أن يحد أحد من حريته في ممارسة شعائره الدينية أو معتقداته. والتمييز على أساس الدين أو المعتقد يعتبر إهانة للكرامة الإنسانية، وانكارا لميثاق الأمم المتحدة وانتهاكا لحقوق الإنسان. كما يطالب الإعلان جميع الدول بإدخال نصوص هذا الإعلان في تشريعات البلاد كي تكون هناك حماية قانونية لممارسة هذه الحقوق. الأمر الغريب أن معظم دول العالم بما فيها الدول العربية والإسلامية انضمت للعديد من الاتفاقيات المتعلقة بمناهضة التمييز والتعصب وكراهية الأجانب والتمييز ضد المرأة، ومع هذا تستمر الممارسات العنصرية ويستمر التعصب الأعمى ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، ثم ضد مكونات البلد الواحد وضد المرأة، ويتم تقسيم الشعب إلى أطياف مختلفة دينا أو عقيدة أو لغة أو جنسا أو لونا أو عرقا. ومع هذا يوصف قائد البلاد بأنه عبقري وشجاع ووالد الجميع ومؤمن وغير ذلك.
والتعصب الشكل الآخر للتمييز هو شعور وفهم ومسلك يصيب الفرد والجماعة فيجعلهم يعتقدون ويتصرفون على أساس أنهم أفضل من غيرهم، لكونهم ينتمون إلى عرق أو دين أو مذهب أو طائفة أو ثقافة أو لغة أو لون أو جنس أو طبقة اجتماعية معينة. ويحق لهم ما لا يحق لغيرهم، والأهم أن هؤلاء يتمسكون بمواقفهم حتى لو ظهر خطلها.
وفكرة التعصب قديمة قدم التاريخ البشري، بل يكاد بعض العلماء يعتبرونه أمرا طبيعيا بسبب غريزة البقاء التي تدفع الإنسان إلى أن يحتمي بالجماعة التي تشبهه خُلقا أو خِلقة، لكن عندما يتحول التعصب من سلوك دفاعي بهدف البقاء والاحتماء والتغلب على مصاعب البيئة وتحديات الحياة إلى سلوك هجومي عدواني عنصري بدون أي مبرر يتحول إلى داء خبيث يجب العمل على التعافي منه، حتى لو تطلب عمليات جراحية. لقد عرف العرب من قديم الزمان التعصب للقبيلة، وكلمة العصبية كانت تعني التمسك برابطة الدم والسلالة الأبوية فقط والتمسك بها ظالمة ومظلومة.. جاء الإسلام ليلغي رابطة الدم ويستبدلها برابطة الإيمان، لكن ذلك لم يدم طويلا بل عاد التناحر القبلي بين أولاد العمومة وبين القبائل المختلفة والأمصار والأعراق وكأن شيئا لم يكن. وما نراه اليوم ليس جديدا علينا بل هو إعادة إنتاج لمرحلة عاشتها الأمة قبل أربعة عشر قرنا.
الاستعمار الأوروبي وعبء الرجل الأبيض
لقد عاد التعصب حديثا ليصبح أيديولوجية المستعمرين الذين كانوا يرون في سكان المستعمرات بشرا متخلفا لا قيمة لهم، فقتلهم واستعبادهم وطردهم من موائلهم والاستيلاء على أملاكهم أمور مقبولة، بل ضرورية. فالرجل الأبيض المتمدن جاء ليطور هؤلاء المتخلفين المتوحشين، حتى لو كان التطوير يعني قتلهم. وشاع مصطلح "عبء الرجل الأبيض" الذي يعني أن هؤلاء البيض المساكين تحملوا المصاعب وغامروا من أجل تطوير هؤلاء المتوحشين. لكن التعصب الديني هو الأكثر شيوعا، سواء بين الأديان المختلفة أو بين أتباع المذاهب المنبثقة عن الدين نفسه. العديد من دول العالم تجاوزت هذا الداء الخبيث ووضعت في دساتيرها وتشريعاتها ما ينص على تجريم التعصب والتمييز، إلا المنطقة العربية التي تغوص عميقا في بحر من الدماء على أرضية الكراهية والتعصب والتمييز والتفريق والإقصاء والتهميش.
مفارقات تستوجب التوقف
نعيش اليوم في عالم قائم على التعددية والانفتاح والتشبيك والتواصل، فالفكرة السليمة كالاختراع المفيد تسافر في ثوان معدودة إلى أقطاب الدنيا. فكيف في مثل هذا الزمن يرتد العديد من شباب هذه الأمة وشيبها ليتمسكوا بفكر متزمت عليائي فوقي عنصري؟ فإذا كنا نستنكر التمييز ضد مسلمي الروهنغا في ميانمار وضد ملاحقة مسلمي جمهورية أفريقيا الوسطى فكيف نقبل أن يكون هناك تمييز واستهداف ضد أبناء الوطن الواحد من مسيحيين وشيعة وأيزيديين وأكراد وأرمن وأقباط وأمازيغ وحوثيين وصابئة وسريان وأحباش؟
كيف يمكن لأحد أن يدعي أن دينه فقط هو الصحيح وفي الوقت نفسه لا يعطي الحق لأتباع الديانات الأخرى أن يعتقدوا بأن دينهم على حق أيضا؟ كيف يمكن في هذا الزمن أن يأتي من يقول لي فهمي للإسلام هو الصحيح فقط وإن خالفتني سأقطع رأسك؟ أو كيف يمكن لكل من كان سنيا أن يكفر كل أتباع المذاهب الأخرى؟ أليس هذا مبررا للطرف الآخر لاعتبار كل سني كافرا يجوز إجتثاثه. فالسيف الذي يحمله المتعصب والعنصري لن يمنع الآخرين من حمل سيف شبيه ليدافعوا عن أنفسهم ويغرقوا في عقيدة التعصب بالعمق والتطرف اللذين يحملهما الآخر؟ لا حل لهذا الداء الخبيث إلا بالمواطنة المتساوية تماما وحرية الدين والمعتقد، عملا بنص الآية الكريمة "لكم دينكم ولي دين". لقد أخرجت المواطنة المتساوية المقننة الكثير من المجتمعات من حالات الفرقة والاحتراب الداخلي والتصدع، إلى عصر الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على سيادة القانون وتساوي الفرص وتداول السلطة واحترام التعددية والمساواة التامة بين الأعراق والأجناس والأديان والعقائد. ولا حل أمام الدول العربية إلا هذا. الشيء المؤسف أنه قد يسقط آلاف وربما ملايين من الضحايا قبل أن ينتشر فكر المساواة وقبول الآخر وتجريم التفتيش على المشاعر والعقائد والأعراق عملا بقول الحديث الشريف "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د. عبد الحميد صيام