العرب بين جزالة اللغة وضآلة الفعل

بقلم: عدنان الصباح

"تجوع يا سمك" هذه هي الكلمات التي حفظها العرب ولن ينسوها عن احمد سعيد مذيع صوت العرب الشهير قبل هزيمة حزيران 1967م وهي عادت للأذهان حين استمع العرب الى مفردة العلوج الامريكان الجديدة على يد وزير الاعلام العراقي محمد سعيد الصحاف اثناء الحرب الامريكية الصهيونية على العراق واحتلاله والجميع يعلم جيدا ما الت اليه الاوضاع العربية بعيد هذين الصوتين فلا زال العرب حتى اليوم يعيشون مأساة احتلال كل الارض الفلسطينية واجزاء من البلدان العربية ولا زالت العراق تعاني وتعاني من اثار الاحتلال الامريكي وتداعياته المتواصلة من ابشع ما عاش العرب من مأساة.

حالة الانفصام بين القول والفعل هي حالة مرضية عربية يتم الصمت عنها دائما ويصر العرب على تحليل اللغة والكلام والخطاب بعيدا والاغراق في ذلك ويصرون على عدم ربط الخطاب اللفظي بواقع الحال فانت بإمكانك ان تستعير اشعار الحماسة متى شئت وتهدد كيفما شئت فكم فعلنا وهددنا العالم وكم غنينا ومنذ امد بعيد والفلسطينيون يذكرون الشاعر الشعبي الذي كان يغني " لندن مربط خيلنا " في الوقت الذي كانت في بريطانيا وفرنسا يحتلون الوطن العربي باسره وسلموا فلسطين للاحتلال علنا بل واعطوا فرمانا بحقهم بها دون ان تهتز لهم رقبة من غناءنا واشعارنا وخطاباتنا النارية.
مرة واحدة حاول زعيم عربي واحد ان يمارس الواقعية وان يصوغ للعرب طريقا جديدا قائما على المسائلة واعتبار الزعيم رجلا عاديا مكلفا بالمهمة يمكن ان يخطئ ويصيب وبالتالي تجوز مساءلته ككل مكلف باي مهمة حين وقف الرئيس جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967 ليعلن تنحيه عن منصبه واستعداده للمساءلة وللأسف فقد اضاع العرب تلك الفرصة النادرة في التاريخ من بين ايديهم.
في خطاب التنحي قال جمال عبد الناصر وبالحرف الواحد " هل معنى ذلك أننا لا نتحمل مسئولية فى تبعات هذه النكسة؟ وأقول لكم بصدق - وبرغم أية عوامل قد أكون بنيت عليها موقفي في الأزمة - فإنني على استعداد لتحمل المسئولية كلها، ولقد اتخذت قراراً أريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه: لقد قررت أن أتنحى تماماً ونهائياً عن أي منصب رسمي وأي دور سياسى، وأن أعود إلى صفوف الجماهير، أؤدى واجبى معها كأي مواطن آخر.
إن قوى الاستعمار تتصور أن جمال عبد الناصر هو عدوها، وأريد أن يكون واضحاً أمامهم أنها الأمة العربية كلها وليس جمال عبد الناصر.
والقوى المعادية لحركة القومية العربية تحاول تصويرها دائماً بأنها إمبراطورية لعبد الناصر، وليس ذلك صحيحاً؛ لأن أمل الوحدة العربية بدأ قبل جمال عبد الناصر، وسوف يبقى بعد جمال عبد الناصر.
ولقد كنت أقول لكم دائماً: إن الأمة هي الباقية، وأن أي فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه في قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية".
وبدل ان يصفق العرب لرئيس قرر ان يتحمل المسئولية عن ما حدث للامة كونه صاحب القرار والراس الاعلى في هرم السلطة خرج العرب وفي المقدمة الشعب المصري يطالبونه بالعدول دون حتى ان يسألوه عما جرى او يطلبوا مناقشة ما جرى فقد اعتبروا الاحتفاظ بالرجل انتصارا حتى لو ذهب الوطن ناسين ان عبد الناصر قال بخطابه بالنص " إن الأمة هى الباقية، وأن أى فرد مهما كان دوره، ومهما بلغ إسهامه فى قضايا وطنه، هو أداة لإرادة شعبية، وليس هو صانع هذه الإرادة الشعبية".
في خطاباته تحدى الرئيس الراحل صدام حسين العالم وهدد بضرب امريكا والحاق الهزيمة بها وحين وقعت الواقعة حصدنا الكارثة وخسرنا العراق نفسه ومعه الرئيس والعائلة والجيش والحزب وبعض العرب الذين باعوا انفسهم للشيطان واعلنوا انضمامهم له ولأهدافه لصالح تدمير اهم قوة عربية صاعدة هي العراق ووقف كل الذين شاركوا صدام في حربه على ايران ضده علنا بسلاحهم قبل سلاح امريكا واسرائيل ولا زالت العراق والعرب يدفعون فاتورة الحرب على العراق حتى اليوم دون ان يتذكروا انهم هللوا طويلا للرئيس صدام وهم يتوعد جيش الولايات المتحدة بالواويات في صحاري العراق.
احد من كتاب العرب وصحافييهم لم يقل للرئيس الراحل صدام حسين ان هذا الخطاب وهذه اللغة لا تعتمد على حقائق واننا لن نستطيع ان نفعل ما تقول, واحدا ممن يحملون لقب خبير استراتيجي وهم والحمد لله كثر لم يقدم للرئيس صدام صورة عما ينبغي فعله على الارض لتحقيق ذلك, احدا من مفكري الامة وقادة الراي فيها ومن علماء السياسة والاجتماع لم يقل له اننا لا يمكن ان نحارب اقوى قوة عسكرية واحدث تكنولوجيا عصرية في العالم بجيش جائع وشعب نصفه مطرود من بلده وبنظام بحاسب الناس على آرائهم واقوالهم وببلد ممنوع بها اقتناء لاقط الفضائيات ولا يسمح لاحد بان يذكر اسم الرئيس صدام حسين بدون تأليه او حتى ان يفكر بتوجيه رسالة له توضح له راي ما دام هم لو يقله, احد لم يقل للرئيس صدام حسين ان العراق الذي يسمونه عراق صدام لا يمكن ان ينتصر بل عراق العراقيين وحين يكون الوطن لأهله لن يستطيع احد ان يقترب منه ولكن حين يصبح الوطن دكانة لفلان أيا كانت عظمته فلا احد مستعد للموت في سبيل دكانة لغيره ولا احد يستطيع الموت في سبيل وطن لا يجد فيه الخبز والامان والدفء, بل على العكس وجدنا الجميع يطبلون ويزمرون له ولأقواله دون ادنى تمحيص ثم حين وقعت الواقعة تركوا الرجل وحده يلاقي حتفه بطلا, ومن يسال اليوم عن هؤلاء انفسهم سيجدهم يطبلون ويزمرون لمن تآمروا على صدام حسين نفسه.
ان العرب يتقنون جيدا قراءة التاريخ وتحليل كتبه الصفراء ويمحصون حروف أشعاره ويصوغون علما للكلام يتفردون به عن باقي الامم ولكنهم عاجزون حتى اللحظة عن صياغة نظام ديمقراطي عصري واقعي مدني قائم على منظومة عصرية للمواطنة يساهم في صناعة مجد البشرية ويقف على دفة من دفاتها حاضرا مقررا فاعلا فلن تشفع لنا اغاني التاريخ ولا بطولات الماضي فاحد اليوم لا يقرأ ما قاله شاعر قبل الفين عام بل يسعى لامتلاك ما صاغه عالم قبل دقيقة فركب الامم لن ينتظر رتابة تلاوة الشعر والبحث في مغائر التاريخ وكهوف احداث ماتت بموت من صنعوها.
ان التصفيق لجزالة المفردات في أي خطاب لن تكون اكثر من تحريك للهواء ولن نسمع الا ملاطمة الريح لأكف المصفقين فلا حضور لامة يغيب فعلها ولا قيمة لقول لا تجد مدلولاته على الارض حية فاعلة وملموسة فبإمكان الشعراء ان يبنوا قصورا ويصوغوا انتصارات ويقيموا حضارات ويلغوا حضارات فوق صفحات الورق او من على المنابر لكنهم لن يغيروا حقيقة واحدة على الارض مهما كانت سخيفة ولن تغني جزالة اللغة أي لغة عن ضىآلة الفعل مهما نفخنا في قرب الكلام فإبرة واحدة صغيرة قادرة على تنفيس جبل اجوف منفوخ بهواء الكلام مهما كان حجمه.

بقلم
عدنان الصباح