الجامعة العربية ـ لم تعد لا جامعة ولا عربية

بقلم: عبد الحميد صيام

لو سُئلت عن رأيي في أهم مؤهلات الأمين العام لجامعة الدول العربية لقلت بدون تردد أولا وقبل كل شيء إتقان اللغة العربية. إذ من العيب، بل والفضيحة أن يجلس على رأس مؤسسة تمثل، على الأقل من الناحية النظرية، مجمل العمل العربي المشترك والقيم والهموم والمواصفات التي يشترك فيها العرب كأمة، ولا يستطيع أن يقرأ جملة واحدة بلغة عربية سليمة، بدون أن يحطم قواعد اللغة وسلامة أصواتها ومخارج حروفها. وقد نغفر للأمين العام جرائمه اللغوية لو كان يحمل إلى المنصب تاريخا من العمل القومي والتزاما بالهم العربي العام وتفانيا في خدمة الأمة وقضاياها المركزية وعلى رأسها مأساة الشعب الفلسطيني. فكيف إذا كان القادم للمنصب يفتقد الصفتين معا؟
هذا ما جال في خاطري وربما في خاطر الملايين من مثلي من الناس العاديين من بين الأربعمئة مليون عربي عندما سمعوا أن مجلس الجامعة العربية أقر يوم 10 مارس الحالي قبول ترشيح السيد أحمد أبو الغيط أمينا عاما للجامعة خلفا للسيد نبيل العربي. فمن وجهة نظري الشخصية، وأتمنى أن تثبت الأيام خطأ تقديري، أن الجامعة العربية بهذا التعيين قد دقت آخر مسمار في نعشها، وفقدت أي مصداقية أو قيمة أو وزن إن كان لها أصلا شيء من ذلك. بهذا القرار يتفكك اسمها تماما، حيث لم تعد تجمع أحدا إلا حفنة من الساسة المرتبطين بحكام غير شرعيين قد يجمعهم كرههم لإيران أو صداقتهم لإسرائيل، أكثر مما تجمعهم مصالح الأمة العربية الاستراتيجية على المديين المتوسط والبعيد. وكذلك لم تعد عربية بعد مواقفها وقراراتها الأخيرة من الصراعات البينية من جهة، ومن تعريفها الأخير لمصطلح الإرهاب، الذي فشلت الجمعية العامة للأمم المتحدة في تعريفه، كي لا يتم الخلط بينه وبين حق الشعوب في النضال ضد الاحتلال والاستعمار والاضطهاد والقهر. وقد يأتي يوم يتهم بالإرهاب من يتحدث اللغة العربية السليمة، أو أن توضع على جدول أعمالها حصة إسرائيل في المناصب العليا بصفتها العضو الجديد الذي يحتل المقعد الثالث والعشرين.
إن تعيين من لا يؤمن بالعمل القومي وصاحب نظرية تكسير أرجل الفلسطينيين لعمري إنها إهانة للشعوب العربية كلها. إنه الرجل الذي أعلنت أمامه تسيبي ليفني، وزيرة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، الحرب على غزة يوم 26 ديسمبر 2008 في مؤتمرهما الصحافي المشترك في قاهرة المعز وجمال عبد الناصر، فكافأها بأن خرج معها مودعا وهو يمسك بيدها أمام كاميرات العالم، حيث وضع اللوم في الحرب التي ستنشب في اليوم التالي على حركة حماس، معطيا المبرر الأخلاقي لإسرائيل لترتكب من الجرائم ما لم يشهده التاريخ المعاصر. أبو الغيط هو ذلك الرجل الذي لوح بتدخل العسكر لقمع ثورة 25 يناير العظيمة، لأنه أحد رجالات نظام المخلوع وكأنه يعرف أين الأمور متجهة. أعاد العسكر تأهيله اليوم وفرضوه فرضا على الأمة العربية بأسرها أمينا عاما لما تبقى من رمزية الجامعة العربية، وما تمثله من تقاطع العمل القومي ولو في أدنى مستوياته منذ إنشائها عام 1945.

مسلسل من الفشل في الوساطة بين أعضائها

ينص ميثاق الجامعة على أن تحل كافة النزاعات بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية، على أن يعمل مجلس الجامعة كمركز عربي للوساطة والتدخل الإيجابي والتحكيم واستخدام آلية مكتب الأمين العام في حالة نشوء نزاع بين الدول الأعضاء. من البديهي أن نتوقع أن تحدث نزاعات حدودية وأيديولوجية وأمنية بين الدول الأعضاء، التي وصل عددها إلى 22 من بينها ثلاث دول تثير التساؤل حول عروبتها، الصومال وجيبوتي وجزر القمر، إلا أن آليات فض النزاعات لم تكن في مجملها ناجحة. ففي تقييم لجهود الجامعة العربية بين عامي 1945 و2009يقول الباحث ماركو بنفاري، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، الذي انتقل للتدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام 2012، إن الجامعة مرت خلال هذه السنوات في 56 أزمة بين حروب محلية أو نزاعات حدود أو أزمات داخلية، ولم تفلح في حل أي منها. ويقول الباحث إن فشل الجامعة العربية ليس ممثلا فقط في منع النزاعات أو التوسط لحلها، بل فشلت في إيجاد نوع من التعاون في المجالات غير السياسية. لقد فقدت المنطقة في صراعات عبر الحدود أو مع أعدائها ما يزيد عن مليون ونصف مليون، بينما فقدت ما يزيد عن مليونين في صراعات داخلية سياسية وطائفية وعرقية ودينية. إضافة إلى أن المنطقة العربية الآن أكبر منتج للاجئين في العالم وأكثر منطقة تستهلك السلاح. كما أن إنشاء منظمات إقليمية داخل المنطقة العربية دليل آخر على فشل الجامعة العربية. فقد أنشئ مجلس التعاون الخليجي عام 1981 ثم أنشئ مجلس التعاون العربي عام 1989، الذي ضم كلا من العراق ومصر والأردن واليمن، وانتهي قبل أن يرى النور مع غزو العراق للكويت، ثم أنشئ اتحاد المغرب العربي عام 1989 الذي لم يقف على قدميه بسبب النزاع حول الصحراء الغربية.
وفي دراسة مقارنة بين الجامعة العربية وجامعة الدول الأمريكية ومنظمة الوحدة الأفريقية، يستنتج جوزيف ناي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة هارفرد، أن الجامعة العربية هي الأكثر فشلا من مثيلتيها. درس ناي عينات من النزاعات التي تصدت لها المنظمات الثلاث. فأعطي منظمة الدول الأمريكية 856 نقطة ومنظمة الوحدة الأفريقية 418 نقطة بينما تنزلق علامة الجامعة العربية إلى 263 نقطة. ويحصي باحث آخر هو مارك زاكر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بريتش كولومبيا، عدد المرات التي تدخلت فيها الجامعة لحل نزاعات المنطقة بين عامي 1946 و1977 فوجد أنها تدخلت فقط في 12 في المئة من مجموع النزاعات، وهي النسبة الأقل لكافة المنظمات الإقليمية. بينما يقر الباحث إبراهيم عوض في مقاله بالانكليزية حول المنظمات الإقليمية في العالم العربي (1994) أن الجامعة نجحت في التدخل واحتواء ستة نزاعات من مجموع 77 نزاعا بين عامي 1946 و1981.

الجامعة العربية والسياسة المصرية
ومسألة تدوير منصب الأمين العام

إن أسباب فشل جامعة الدول العربية في حل النزاعات كثيرة ويصعب على مقال صحافي أن يضم كافة الأسباب. بعض تلك الأسباب تتعلق بالهيكل والبنية التي أقيمت عليها الجامعة وغالبية الأسباب تتعلق بالدول الأعضاء، التي لم تمكن الجامعة وأمينها العام من ممارسة دور مستقل، بل ظل الأمين العام ملحقا بوزارة الخارجية المصرية إلا في فترة خروجها من مصر بين 1979 و1990. وسأخص حديثي في هذا المقال حول هذه النقطة فقط لأعلن أن انصياع الأمين العام لسياسة دولة المقر أصاب الجامعة وأمينها العام بالشلل والتهميش.
لا أحد يجادل في دور مصر المحوري في كافة القضايا العربية سلما أو حربا، اقتصادا أو ثقافة، فنا أوعلما. فلمصر ميزات ثلاث تفرض عليها دورا قياديا مميزا: الموقع الاستراتيجي الرابط بين جناحي الأمة في آسيا وأفريقيا، والثقل السكاني الذي يعادل ربع الأمة، وقيام الدولة الحديثة المستقرة تاريخيا على أساس مؤسساتي منذ عهد محمد علي باشا. فعندما تصلح مصر يصلح أمر العرب، وإذا وهنت مصر وضعفت وتراجع دورها انعكس ذلك على العرب جميعا تفككا وضياعا وحروبا وصراعات محلية وإقليمية واحتلالا وهوانا. ومقارنة بسيطة بين دور العرب وأهميتهم كأمة في عهد جمال عبد الناصر وامتدادا لما بعد حرب 1973وبين وضع العرب بعد خروج مصر من دائرة الإجماع العربي، بعد اتفاقية كامب ديفيد يوضح تلك الصورة المأساوية التي وصل إليها العرب كأمة. عند إنشاء الجامعة العربية عام 1945 كان هناك اتفاق على أن يكون المقر الدائم في القاهرة وأن يكون أول أمين عام لها من مصر (عبد الرحمن عزام 1945-1952) لكن الذي بدأ عرفا تحول إلى ما يشبه القانون غير المكتوب. فقد شغل المنصب بعده كل من عبدالخالق حسونة فمحمود رياض الذي استقال بعد كامب ديفيد، حيث رحل المقر إلى تونس وبعد استقالة الشاذلي القليبي انتخب عام 1991 عصمت عبد المجيد تلاه عمرو موسى ثم نبيل العربي وبداية من أول يوليو سيحتل السيد أبو الغيط هذا الموقع. نريد فقط أن نطرح قضية الأمانة العامة وتداولها بين الدول الأعضاء، ونقارن بين هذا الإصرار على أن يكون الأمين العام من بلد واحد فقط، رغم اعترافنا بأهمية هذا البلد، وبين ما هو معمول به في كافة المنظمات الإقليمية في العالم من تداول لمنصب الأمين العام أو الرئيس كي لا تشعر الدول الصغيرة بالغبن.
لقد آن الأوان أن يعاد النظر في موضوع تداول منصب الأمين العام بين الكتل العربية الأربعة: شمال أفريقيا وحوض النيل والهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) ومنطقة الخليج العربي أسوة ببقية المنظمات الإقليمية الأخرى في العالم. ولنتفق على أن مصر تشكل ربع العالم العربي، إذن فلتأخذ الأمانة العامة مرة بعد كل ثلاث دورات على أن توزع الدورات الأخرى على المناطق الجغرافية الثلاث. إن اختيار أمين عام من بلد صغير مثل الكويت أو لبنان أو فلسطين أو تونس يعطي دفعة أعلى للعمل العربي المشترك لأن الأمين العام لن يكون رهنا لسياسات بلده من جهة ولا للسياسة المصرية من جهة أخرى، بل ربما يعمل على تحقيق إنجازات أكبر ليس بالضرورة في مجال حل النزاعات، بل في ميادين التكامل الاقتصادي والبيئي والسياحي والاجتماعي والثقافي والصحي.
تخيلوا أن معدل التأشيرات التي يحتاجها شاب عربي ليزور الدول العربية 18 تأشيرة بينما تنخفض للأمريكي لتأشيرة أو اثنتين، حتى إن بعض الدول العربية ترحب بالإسرائيلي وتعامله بطريقة حضارية أكثر من الفلسطيني أو السوري أو العراقي. فأي جامعة عربية تصمت على هذا لولا أن أمينها العام مرتهن لسياسة دولة أو دولتين تقران هذه السياسة.

مبادرات للعمل العربي الجاد برسم السيد أبو الغيط

نريد في النهاية أن نعطي فرصة للأمين العام الجديد ونقول له خذ مواقف متوازنة وشجاعة وسليمة ولا تخش أحدا. لتكن غزة أول محطة لك كي تحس بآلام شعبها المحاصر منذ 2007. إذهب إلى اليمن واجلس مع كافة الأطراف المتنازعة وشيد بينهم جسور تواصل. إهبط في مطار طهران وحاول أن تخفف من حدة التصعيد الذي تقوده السعودية من جهة والمتطرفون من نظام الملالي من جهة أخرى. قدم مبادرة لحل أزمة الرئاسة في لبنان بعيدا عن إملاءات السعودية وفيتو حزب الله. إنزل إلى دمشق وحلب وإدلب واطلع على كمية الخراب الذي لحق بقلب العروبة النابض سوريا الوطن. قم بوساطة بين المغرب والجزائر لحل أزمة الصحراء الغربية التي شلت قدرات الجارين الكبيرين. قم بزيارة لمدينة الفاشر وابق هناك أسبوعا لتتعرف على أوجاع الشعب في دارفور. وقبل هذا وبعده إعلن موقفا تاريخيا من عدو الأمة القومي إسرائيل، التي دفنت الأسرى المصريين أحياء وما زالت تحتل الأرض الفلسطينية وتهود القدس وتحاصر غزة وتحتل الجولان ومزارع شبعا وكفر فالوس وبلدة الغجر. بهذا يا سيادة الأمين العام تحتل قلوب الشعوب العربية بدل أن تصبح موظفا صغيرا لدى النظام العربي المتهالك.

٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز

د. عبد الحميد صيام