رن هاتفي ليلا... وهاتف الليل اما همس حبيب أو خبر لا يحتمل التأجيل ولأن الحب في بلادنا وحياتنا مصادر وممنوع كما هي حياتنا فإنني لا أحب رنين هواتف الليل, كان أحد الاصدقاء القدامي من عمان على الخط الآخر مفزوعا, وحين رددت عليه قال بلهفة... عدنان... فأجبته نعم فسألني بسرعة غريبة... متأكد, اجبته بضحكة لحظة اسأل لأتأكد, فقال بغضب ما تمزح وأحترمت غضبه بتوتر وقلت نعم أستعجله القول, عندها أجابني أيضا بغضب وما هذا المنشور في موقع الاردن العربي, سألته وما هو المنشور, فأجابني ابحث وأفهمني أنا, وأغلق الهاتف غاضبا ايضا دون أن يودعني.
عدت الى الموقع المذكور لأقرا نبأ وفاة الصحفي المخضرم عدنان الصباح وصورتي والحق يقال أن شيئا ما اهتز بداخلي قبل ان استوعب أن المقصود هو المرحوم عدنان الصباح الصحفي المخضرم والقومي المخضرم, وفجأة مر بخاطري عديد العديد من الصور من أصدقائي الذين رحلوا وخصوصا اولئك الذين ربطتني بهم صداقات لا تموت, من اولئك الذين كان رحيلهم فاجعة وتذكرت أصدقائي المرضى والذين يكابدون المعاناة, تذكرت كل أولئك الذين يسافرون يوميا للموت في سبيل الوطن, شهداء وجرحى وأسرى ومنفيين ولا زال الوطن بعيد.
عجيب هو الموت, وعجيب أكثر ان تكون الميت أنت, والأكثر غرابة أن تكون أنت نفسك من تقرأ خبر وفاتك... الأمر غريب حين تتصوره, أن تسكت روحك فجأة ويصمت عمرك فجأة, عجيب ان تغادر تراب الارض اليه وانت لم تفرح بعد بالرقص مع تراب بلدك في لحظة عشق نقية, عجيب ان تموت وانت لم تسجل للجيل القادم فسحة من امل وامن ودفء على بقعة من تراب لا يدنسها اعداء الحياة, عجيب ان تموت وانت لم تنتهي بعد من قصيدة قصيرة لفرح لم يأت ولم تراه ولم تحضنه لحظة واحدة من عمرك, عجيب ان تموت دون ان تودع دعاة الموت عن وجه الارض, عجيب ان تموت دون ان تحتفل بنقاء التراب من الدنس, عجيب ان تموت دون ان تلف لحاف الدفء حول اطفال بلادك واطفال الارض, ولكنك حتما ستجد نفسك امام تلك اللحظة مسافرا الى هناك حيث تنتظرك كل اعمالك واقوالك وامنياتك وخيالاتك وحتى صمتك سسينتظرك ايضا فهناك لا شيء سينسى وستجد نفسك امام اسئلة كثيرة من مثل لماذا فعلت كذا ولماذا قلت كذا ولكن الاخطر هو سؤال لم تتوقعه لماذا سكت عن كذا, فالسكوت فعل كفعل اليد وهو يتجاوز فعل الكلام خطورة وتأثيرا.
على أي حال وجدتني أتأمل مشدوها خبر وفاتي هناك عفوا صورتي على خبر وفاة صحفي عريق يحمل نفس الاسم هو المرحوم الاستاذ عدنان اسعد داوود الصباح والذي تعرفت عليه ايضا في السبعينات بحادثة حياة حين بدا بنشر اعلان عن قرب صدور مجلته باسم الاثنين وكتب بالإعلانات ان رئيس التحرير هو عدنان الصباح وراجعني البعض ممن كان يحق لهم مراجعتي عن ما يجري فذهبت الى العنوان لأتعرف على الرجل فوجدته دمثا وسيما راقيا رائعا وقد كان للقائنا فرصة لي للكتابة في مجلته الاثنين ولا زلت اذكر مما كتبت فيها تلك الايام مقالا عن فيلم سينمائي سياسي اسمه " القضية 68 " واعتقد انني لو وجدت المقال اليوم لوجدتني اكتب حالنا مرة اخرى عن ذاك الشق الذي يشرخ حياتنا, عن ذاك السوس الذي يتغلغل بنا, عن الشرخ الصاعد فينا منا كان ولا زال ولا يبدو في الافق اليوم ان اندمال الشق الجرح قريب كما قال ولا زال يقول الى يومنا رغم مرور السنين فيلم " القضية 68 " الصورة التي رسمها المخرج الراحل العملاق صلاح ابو سيف ان لم تخني ذاكرتي وقد كنت شاهدت الفيلم ضمن افلام النادي السينمائي العربي الذي كان يعرض افلامه في سينما سلوى في شارع الكورنيش في بيروت وكان يحضر مخرج الفيلم او كاتبه لمناقشته ذلك من ايام زمن الثقافة وزمن بيروت عاصمة المتنفس العربي آنذاك حين كان بإمكانك ان تلتقي قامات جميلة ورائعة من امثال المبدع الكبير اسماعيل شموط, وفي سينما سلوى تعرفت على المخرج العالمي بيير باولو بازوليني عند عرض فيلمه حظيرة الخنازير وبازوليني شاعر وكاتب ومفكر ومخرج ايطالي, هناك أي في سينما سلوى شاهدت فيلم بازوليني حظيرة الخنازير وناقشنا بازوليني نفسه في فيلمه وما زلت احتفظ بصورة الخنازير تفتك بمغتصبها ويطن في راسي السؤال اذا كانت الخنازير لم تحتمل فماذا عنا؟.
في الاثنين نشرت نصا – وقد يغضب تذكر ذلك العديدين – لأنني هاجمت فيه ايامها شاعر المقاومة الرجل الذي اصبح فيما بعد سيد الكلمة والحاضر في غيابه الشاعر محمود درويش لمغادرته الوطن وكتبت نصا مقلوبا لمقولته وطني ليس حقيبة قلتها عاكسا وطني صار حقيبة مما اغضب الشاعر الكبير من فتى تطاول عليه وعلى قامته ولم يسامحني منذ ايامها رغم كل محاولاتي لكي التقي به في بيروت وقد رجوت الشاعر الكبير الشهيد معين بسيسو ان يتوسط لي ليسامحني ويسمح لي بالسلام عليه فرفض رحمه الله ولم يسمح لي حتى بالدخول وطردني شر طرده من مكتبه في فلسطين الثورة في حينها ولم تقع عيني عليه بعدها.
التقيت عدنان الصباح الصحفي ايضا ذات مرة وانا اقدم بطاقة دعوة لحضور امسية ادبية لابن بلدي المرحوم المناضل عدي الزغيبي وقد كان صديقا للصحفي عدنان الصباح فاحتج علي رحمه الله وطالبني ايامها بتمييز اسمي عن اسم صديقه وقد كانوا رفاق واصدقاء وظلوا حسبما اعلمني المرحوم ابو خليل وحدثني عن صديقه ورفيق دربه واعتزازه بتلك الصداقة ومسيرة الرفاق وهم من رفاق ايام زمان حين كان العمل الحزبي مسيرة نضال وعنوان لشرف الريادة والكفاح في سبيل المبادئ والقيم والمثل العليا.
المهم انني توقفت دويلا وانا اقرا نصا بجانب صورتي يقول عدنان الصباح في ذمة الله وراودتني اسئلة كثيرة وانا اكرر قراءة الحروف عن ماذا تعني تلك الكلمة في ذمة الله ولماذا نطلق الكلام على عواهنه دون تفكير ثم نطوي عنق هرطقات الكلام لتصبح الحقيقة كما نقول لا لكي نقول ما هو حقيقي.
ان تقرا خبر وفاتك يعني ان تسال نفسك هل فعلت ما اردت وهل قلت كل ما اردت, الم يفتك قول او فعل كان بودك لو انك قلته, كان بودك لو انك فعلته, ام ان العمر كان كافيا لتفعل ما ينبغي وتقول ما ينبغي... أهي الحياة محض سفر عبثي ام فعل تراكمي لشأن سيأتي ذات يوم وقد يأتي بما اردت غيرك, اهو الغياب نهاية ام ان الغياب افساح للمجال لعل القادم يمكنه ان يفعل افضل, حين يغتالك خبر الموت ياتيك الاحساس بان الحياة ايضا ستستمر وهناك غدا من سيقرأ خبر رحيلك ويذرف دمعه ثو يمسحها ويمضي في الطريق اليك ليفسح المجال لقادم جديد, كل ما عليك اذن ان تمهد الدرب خلفك افضل مما فعل من سبقوك.
مرارا قرات اسمي مقرونا بتعبير الرحيل الابدي وحاولت تصور الحروف كما لو ان غيري كان سيقرأ الخبر... ترى كيف كانت ستكون حروف اسمي ساعتها وماذا أعددت انا لتلك الساعة وكيف رسمت تلك الحروف بقلم حياتي... من منا سأل نفسه هذا السؤال, من منا فكر بأي الألوان والصور ستظهر حروف اسمه بشكلها النهائي في عيون وأذهان الآخرين حين يصبح محض خبر لا أكثر ويمضي وتبقى الألوان التي خربش بها يوما بيديه وفكره على جدران الحياة بما فيها حياة الآخرين, ويظل السؤال السنا ملزمين تجاه الوان اسماءنا بعد الرحيل, اليس الرحيل اذن بوابة الخروج من فعل الحياة فلم لا يكون الزفاف لذاك الباب أجمل ما دمت لن تكون المغني بل المغنى له فدع الصادحين بالغناء يغنون لحن وداعك بصوت جميل فالجمال ايضا يليق بالرحيل.
بقلم
عدنان الصباح