لم يعد الأمر سرا فجميع أهالي جنين يعرفون أن عمر النايف عاد إلى جنين وهو يتجول بكل حريته بين السيباط والمراح ويقولون انه زار مقابر الشهداء واجتمع بهم سرا, وانه يسهر ليله على دبة العطاري مستعيدا للذكريات, وان عمر كما يقول من التقوه ينام ليلا في حواري المخيم, من باب الحرص على حياته الجديدة, وان الذي يرقد هناك بعيدا بين يدي أجهزة الأمن البلغارية ليس هو بالتأكيد وان على الذين نظروا في عيني عمر وهم يقتلونه أن يفروا إلى خارج الأرض فحمزة عاد ليعد العدة ليفاجئهم حيث هم وليكشف زيف رواياتهم وهم بالتأكيد لن يستطيعوا مواجهته وأقول لهم نصيحة أن لا يفكروا على طريقة أولئك الذين وصف رعبهم الطاهر وطار في قصته الشهيرة " الشهداء يعودون هذا الأسبوع " والذنب ذنبهم.
عمر النايف عاد فجأة وسيمسك برقبة القاتل وحماة القاتل والمدافعين عن القاتل والمتعاونين مع القاتل... عمر النايف عاد وليس شهداء الطاهر وطار في الجزائر من يعودون فقط فشهداء عبد الرحيم محمود وغسان كنفاني وكمال ناصر وناجي العلي يمكنهم أيضا أن يعودوا وعمر النايف واحدهم وها هو قد عاد فلا تخبروا أحدا بالأمر لنرى كم عدد الذين سيؤوون للجحور مختبئين لكي لا يرى النايف أعينهم مفضوحة بالرعب من حضور آخر من رأت وما رأت عينيه, يقولون إن للعيون كاميرات تسجيل لا تخطيء, والأمر لن يقف عند حدود ما رأته أعين النايف نفسه ما سمعه وعرفه وفهمه عمر النايف ممن التقاهم من الشهداء خلال محطته قبل أن يقرر العودة لفضح من رآهم ومن سمع عنهم ممن التقاهم على بوابات السماء.
للفنان العربي الراحل نور الشريف فيلم بعنوان " آخر الرجال المحترمين " لم يشغلني الفيلم رغم أهميته كثيرا لكن الذي شغلني أن الفنان عادل إمام تساءل في احد أفلامه وهو يرى إعلانات فيلم " آخر الرجال المحترمين " في الشارع قائلا " الله!! هم خلصوا؟ " وهو السؤال الذي يرن في رؤوسنا مرة ومرة... أين هم أولئك الذين يعني لهم القول المأثور لعمر بن الخطاب والله لو عثرت شاة في ارض العراق.... أين هم الذين سيعني لهم هذا القول شيئا بعد أن عثر دم عمر النايف في ارض فلسطينية من المفترض أنها محررة فعلا لا قولا كما هو حال السفارات في كل بقاع الأرض, فلو أن ما جرى للشهيد عمر النايف كان في جنين لما كان هناك متهم سوى الاحتلال أيا كانت الصور, فالاحتلال في بلادنا يداهمنا حتى في خبزنا وشقوق ملابسنا, أما أن يحدث ما حدث للنايف في سفارة فلسطينية تحظى بالحماية الرسمية للدولة المضيفة ثم يأتينا من يقول إن الدولة البلغارية تسحب الحراسات من حول أي سفارة لا تحدث بها مشاكل لزمن معين ما فماذا كان يعني لهم وجود النايف في داخل السفارة, ولماذا لم يكن يعني وجود النايف حاجة للحراسة بالنسبة لنا نحن إن لم يكن الأمر مهما للبلغار, ثم ولنفترض أن الدولة البلغارية تقاعست فلماذا لم نطلب منها ولماذا غاب امن السفارة نفسه ولم يوفر الحماية المتواصلة للشهيد النايف طوال فترة لجوءه للسفارة للاحتماء باسم بلده وناس بلده من أعداء بلده.
سأكرر صرختي مع عادل إمام متسائلا عن آخر الرجال المحترمين " الله!!! هم خلصوا؟ " هل كان النايف آخرهم فلم نحتمله والميت لا يحتمل الحي والصمت لا يحتمل الصراخ والكاذب لا يحتمل الصادق فمن إذن سيحترم المحترمين حين يكون الحديث عن آخرهم, هل كان علينا أن نعاود قراءة الطاهر وطار في صرخته القديمة الجديدة ونحن نخشى أن يعود عمر النايف للحياة ليحمل مفقأة للأعين تعمينا وتخرسنا فعلا لا مجازا كما هو الحال الآن.
جرت العادة أن الغربة توحد الناس وتقربهم من بعضهم وقد كان النايف غريبا مرارا فلماذا لم يجد في حضن المغتربين الرسميين دفئا يقيه شر مطارديه من الأعداء والقتلة ولماذا علينا أن نتريث لنجد القاتل أو نصنع قاتلا مخفيا أو وهميا ليصبح دم النايف ناء يمكن تكراره في مصانع تنقية المياه ويظل دم الدبلوماسيين يشبه ربطات عنقهم ازرقا لا يعرف كيف يكون الأحمر قانيا.
كنا كلما قرأنا عن استقالة مسئول ما في بلد ما من تلك النوعية من البشر الذين يحترمون ذواتهم لان حادثة ما سببت أذى ما لجزء ما أو لفرد ما أو لمجموعة ما من شعبه نبادر إلى شتم العرب لأنهم لا يفعلون ذلك ونتوعدهم لو أن لدينا بعض من سلطة, متر واحد من ارض نقيم عليه سلطتنا لكنا أريناهم كيف يكون الحكم وكيف ستكون النزاهة والاستقامة والمسائلة.
وزير العدل الياباني ياناجيدا استقال من منصبه بسبب تصريح اعتبرته المعارضة استخفاف بالمهمة التي يضلع بها, وزير الاقتصاد الياباني أميرا أماري استقال من منصبه لان صحيفة محلية قالت انه ومساعديه تلقوا رشاوي وهدايا بقيمة 100 ألف دولار, وزير الزراعة الياباني انتحر قبل استجوابه من قبل البرلمان عن تلقيه دعم من شركات لحملته الانتخابية لان هذه الشركات تقدمت بطلبات للحصول على مشاريع طرحتها الحكومة, والأمثلة تطول وتطول.
لون ان طفلا ضل الطريق وتاه في بلد من بلدان العالم التي تحترم نفسها حتى ولو كذبا لكان استقال وزير التربية ووزير المواصلات ووزير الداخلية ومدير التربية ورئيس البلدية وقامت قيامة البلد حتى يعود الطفل لأهله, لو أن مواطنا لبلد يحترم نفسه اختفى لأي سبب كان لتوقفت عجلة الحكم حتى يعود الغائب لبيته.
لو حاد قطار عن سكته وجرح مواطن ما بسبب انزلاقه عن كرسيه لعوقب كل من اشتغل بالقطار والسكة ونظام القطارات والسفر بالبلد وأستقال وزير النقل حتى لا يتألم مواطن جديد لسبب جديد فالمفروض أن مهمة أي مسئول في أي بلد هي السهر على راحة مواطنيهم وضمان أمنهم وسلامتهم وبالتالي فان أي خلل في تلك المنظومة على المسئول الأول أن يتحمل النتيجة حتى لو لم تكن مسئوليته مباشرة فكل أسس الحكم والإدارة تقول إن المسئول الأول هو الذي يتحمل نتائج أعمال مرؤوسيه, وان تعبير مسئول جاء لان صاحبه هو من يتم سؤاله وليس العكس إلا في بلاد العرب فالمسئول العربي لا يجوز سؤاله أبدا.
من كل ما سبق أردت القول لماذا لم يقدم وزير الخارجية والسفير في بلغاريا استقالتهم فورا أو يتم وقفهم عن عملهم لحين الانتهاء من التحقيق وذلك اضعف الإيمان ولم لم يتم حتى استدعاء السفير لاستجوابه فيما نسب إليه حتى لو كان كذبا وعلى العكس يجري الدفاع عنهم حتى قبل أن ينتهي التحقيق في كل ما جرى, ألا يستحق الأمر أن نتوقف عنده أم أن حياة المواطن الفلسطيني مجرد مواطن أيا كان لا تستحق أن نحترمها ونصونها وندافع عنها بكل ما أوتينا من قوة.
بقلم/ عدنان الصباح