لا أحد يعطيك مالا لسواد عينيك ومادام إسمه مال سياسي فهو يختلف عن تعريف المال القديم ومدلول الاختلاف واضح في كلمة "سياسي" سواء نعتناه باللون الرمادي أو الأسود فهو من وإلى أجندة سياسية ، وطنية كانت، أو مشكوك في وطنيتها،
في تراثنا العربي كانت مصطلحات اللغة تطلق أسماء كثيرة على غير المال الخاص وحركته مثل مال سايب ومال عام ومال هبة ومال رشوة ومال فدية ومال في باطن الأرض أو باطن البحر وفي الاسلام من جهة التحريم وقع المال تحت مسمى مال حرام ومال حلال بالمنظور الديني، ولم يتحدث علماء المسلمين عن المال السياسي صراحة من حيث النقد والتحريم إلا إذا وضعناه تحت مسميات الهبة لحاكم أو لبلد أو لجماعة وكذلك الهدايا أيضا الرمزية والمادية صغرت أو كبرت قيمتها أما المساعدات في الحرب من أسلحة أو أموال فلم يتطرق إليها أحد إن كانت حلالا أم حراما وحسب الفتوى يندرج المال السياسي في عصرنا..
لم يتحدث الكتاب والمثقفون العرب والفلسطينيون بشكل علمي وتصنيفي عن المال السياسي وبقي الجميع يتحدث عن ذلك بريبة وأحيانا بازدراء وغالبا يتم الحديث بشيء من الشبهة دون التوسع في رصد الظاهرة قديما وحديثا واكتفى السياسيون بخلاصات اتهامية بأن المال الممنوح لمعارضيهم هو مال مشبوه الأجندة رغم تلقي الجميع ومؤيديهم أو من هم في صفهم أموالا ومساعدات وتسهيلات واحتفالات ومهرجانات وهدايا وهبات هي في النهاية حسب علم رأس المال والادارة الحديثة تترجم أو تقدر بقيمة مالية معينة فنحن نعيش في عصر العولمة أي عصر المال أو مركزة رأس المال، أي بمعنى قديش وبكام كل شيء يخطر ولا يخطر على البال فالوقت والمسافات والغياب والحضور والعمل والنشاط والاستهلاك والعلاج واستنشاق الهواء والابتسام والتكشير والاغراء والتنفير كله يتحول لقيمة مالية حسب العولمة والنظام الرأسمالي وباختصار شديد ""كل ما هو موجود ويمكن التعامل معه من قبل الانسان يصرف مالياً"".
المال السياسي لا يمكن أن يكون لونه أبيضا فهو إما رماديا أو أسودا وهذه حقيقة....
الهبات والمساعدات والأموال المنقولة وغير المنقولة والدواء والكساء والسفر والتسهيلات والمنح والتبادل الثقافي والتبادل الأمني وبيع وشراء المعلومات والجوسسة والتخريب والانحياز والمهرجانات والمشاريع والتزود بالسلاح والقتل والتدمير والحروب الباردة والساخنة هي أنواع من المال السياسي ويتدرج لونه بين الرمادي المغطى بالمعاني الانسانية وبين الأسود القاتم كما في الحروب وأيضا للتغيير والتبديل القصري في مجموعات البشر وجغرافية الدول والاستيلاء على مصادر الطاقة والثروة على هذه الأرض وفي الهواء والسماء.
في فلسطين لعب ويلعب المال السياسي الأسود ما بعد إقامة السلطة واتفاق أوسلو دوره الأخطر في تحويل قضية شعب إلى مصالح حزبية وشخصية وتجارة احتكارية من الإبرة حتى الصاروخ للمجموعات المتنفذة سياسيا واجتماعيا وتجاريا ومراكز قوى مسلحة أو عشائرية أو مدعومة ماليا لغرض سياسي أو تصفوي بشكل واضح وناصع الهدف فاق بكثير من النصاعة الدور الدي لعبه ما قبل نشوء السلطة في أيام الثورة رغم وجوده واستخدامه طويلا ولكنه اليوم يعمل بشكل مكثف ومتسارع الأثر..
المال السياسي الذي يقدم من جهات عدة في مجالات عدة لم يعد يخفي أجنداته في عالمنا اليوم وفي فلسطين يتم تبريره بالجبر والقوة المتسلطنة في الحكم ومؤسسات السلطة وفي المؤسسات غير الحكومية وحتى بعض المؤسسات الخاصة التي تتلقى ما يسمى بالمساعدات أثناء الحروب ولها أهدافها..
المال السياسي مازال ينمو ويتعدد حتى استحوذ على عقول ومؤسسات المجتمع وتراكيبه في سباق محموم على الغنى والثروة دون رادع أخلاقي أو وطني وأصبح قادة المجتمع والمتنفذين فيه لا يجدون غضاضة في الكسب منه وتحريكه لمصالح حزبية وشخصية ولأهداف خارجية وفي المقابل بات الفقراء ومن لم يحالفهم الحظ في اتقان عملية التبرير للعمل من خلال المال السياسي والكسب منه محط معاناة ليس بعدم الرغبة في تقبله وقبوله فقط بل هو يغير كيان حياتهم ووسائل معيشتهم حتى باتوا يعانون من دورة رأس المال السياسي التي تجتاح فلسطين عامة وقطاع غزة خاصة بحكم وجوده خارج سيطرة السلطة المركزية ولو أنها هي أيضا تتلاعب وتقسم سلطتها وتحكمها على رقاب الجمهور من خلال هذا المال السياسي المبرر من نفس المصادر أو غيرها بإسم المساعدة على الاستقرار والحفاظ على الأمن.
أن يصبح غالبية الشريحة المثقفة والسياسية والتجارية يجرون جري الوحوش وراء مصادر المال السياسي لتوسيع النفوذ وانعاش حياتهم الخاصة والحزبية فهذه وصفة للقضاء على ما تبقى من أمل للتحرر والانعتاق من الاحتلال.
ملاحظة: قديما كان تعريف المال في اللغة هو كل ما يقتنى ويحوزه الإنسان بالفعل، سواء أكان عينا أم منفعة، كذهب أو فضة أو نبات أو منافع الشئ كالركوب واللبس والسكن، أما ما لا يحوزه الإنسان فلا يسمى مالا كالطير في الهواء والسمك في الماء
أما اليوم قد غيرت العولمة تعريف المال وأصبح كل ما تستطيع القوة اقتنائه وحوزته أويمكن السيطرة على مكانه وخاماته وأصحابه بالقوة الغاشمة وبهذا أصبح المال أي مال هو مال سياسي ..
بقلم/ د. طلال الشريف