قلمي يسير فوق القضبان

بقلم: هاني زهير مصبح

حروف تبدأ حكايتها وتجتمع كلماتها من شوق وحنين لفتاة تتلهف لزيارة أمها لتصل اليها بعيد الام وتبدأ الحكاية عند شباك التذاكر لموظفه لا تبالي ولا تكترث للأمر كثيراً في محطة القطارات في إسبانيا بمدينة مدريد حيث تخطئ الموظفة في طباعة التذاكر وتخالف المواعيد المطلوبة فيجن جنون صاحبة القصة لأن لديها حلم ممزوج بالشوق والحنين لرؤية أجمل وأغلي ما بهذا الكون وهي ماما "رحيمو" التي تعيش في المملكة المغربية بمدينة طنجة فتسلمت التذاكر بتي وأطفالها اسما ونور وصعدت القطار وهي لا تدرك ان هناك خطأ بالمواعيد وحين جلست بداخل القطار وإذ بأناس آخرون يحملون تذاكر سفر بنفس الأرقام لنفس المكان وحينها تبين خطأ موظفة شباك التذاكر فعادت اليها بتي والدموع في عينيها والألم يعتصر قلبها والفرحة ضاعت من علي شفتاها عادت لتراجع من اصدر تلك التذاكر وهي موظفة شباك التذاكر وكل شيء مسجل لان المكان مليء بالكاميرات ومثبت ان ذلك خطأ الموظفة ولكنها لا تبالي ولا تعتذر عن ذلك ورافضة كل السبل لتصحيح الخطأ فما كان من بتي إلا أن تسللت خلسة من الباب الخلفي لمكتب الموظفة وتدخل وتغلق الباب الحديدي وتفرغ كل ما لديها من عصبية وجنون في لحظات انهيار لما أصابها من ألم من تلك الموظفة البلهاء وبلغ الأمر حدته حتي قامت بضربها بتي وكسر نظاراتها التي تلبسها الموظفة البلهاء وأتت الشرطة مسرعة للمكان ولكن الباب الحديدي مغلق من الداخل جيدا وبتي ترفض الإصغاء إليهم حتي هدأت بعد تفريغ شحناتها السلبية التي تسببت بها تلك الموظفة بعد ذلك أصغت إليهم واقتنعت وفتحت الباب وذهلت الشرطة من الفوضى العارمة التي تعم المكان كله .

رغم أن ما حدث جملة وتفصيلا كان خطأ غير مقبول أبدا إلا أن الشرطة لا تستطع اعتقال بتي لأنها كانت تخضع للعلاج من قبل وبحوزتها أوراق الطبيب المعالج وكان لديها ضغط نفسي مسبق وهذه الموظفة فجرت هذا الضغط باللامبالاة وكل ما فعلته الشرطة هو اجراء محضر بما وقع وعادت بتي بصحبة زوجها وأولادها الي المنزل عادت وكان الوقت متأخر ليلا ولم تتمالك اعصابها وانهارت من جديد والدموع تنهمر من بين سيل مدامعها كلما تذكرت الحنين الي أمها وما جري لديها في محطة القطارات وتلك الليلة لم تنام بتي جيدا حتي الصباح وكانت تناظر النجوم في كل وقت وحين وتنتظر اختفاءها ليشقشق النهار وتغرد العصافير ويبدأ العمل، وما أن طلع النهار حتي ذهبت بتي الي محطة القطارات لتعرض مشكلتها علي المسئول لعلها تجد حلا .

وهناك وجدت المسئول وكله آذان صاغية وأخبرته بكل شيء حدث وقالت له هذا يسيء الي شركتكم عندما تخطئون ولا تفعلون شيئا فإستحاب الي ندائها واعتذر عن ما حدث وهذا المسئول بأخلاقه المهنية يمثل قانون بلد حضاري ويعكس ثقافة مجتمع عريق وأن تصرف الموظفة هو تصرف فردي يعكس ثقافتها الشخصية ويجب محاسبتها علي تلك الإساءة الغير مقبولة أخلاقيا ومهنيا وقال لها بشكل ودي بحثا عن إرضاءها قائلا نحن هنا جميعا موجودين لخدمة المواطن ماذا نفعل او ماذا تريدي؟

فقالت بتي أريد السفر قبل موعد عيد الام لزيارة أمي التي أشتاق إليها كثيرا فأستجاب المسئول إلي طلب بتي وأخذت تذاكر سفرها في نفس اليوم الذي قابلت فيه المسئول صباحا وهو يسبق عيد الام بيوم واحد وكان السفر ليلا الساعة التاسعة مساءا من مدريد .

عادت بتي الي المنزل مره اخري، ولكنها هذه المرة عادت لتحزم أمتعتها من جديد استعدادا للسفر.

وفي المساء ركبت القطار مرة اخري برفقة أولادها الصغار اسما ونور وبدأت رحلتها وهي تصارع الزمن، تناظر كل شيء من حولها، مخاطبة دقات قلبها قائلة في نفسها " أيا قطار لما لا تسرع كثيراً فإني أشتاق إلي حضن أمي كثيرا " وكان القطار هو المرحلة الأولي من رحلة السفر تلك المرحلة التي نامت فيها ابنتها نور وهي في السنة الرابعة من عمرها خائفة من القطار العملاق لأنها المرة الأولي لها بركب القطار وكذلك اسما الذي يبلغ من العمر تسعة سنوات لقد نام صغارها وبقيت هي وحدها تغطيهم جيدا وتناظرهم بأعينها تسهر علي رعايتهم تقبلهم من حين إلي آخر شوقا وحنينا لأنها أم تشتاق لأمها تلك هي غريزة الأم وطيبتها فكل دقة قلب من دقاتها تحمل في معانيها ألف حكاية وحكاية عن الحب والحنين وعن الشوق والطيبة تلك هي الأمومة.

ساعات وتنتهي المرحلة الأولي من السفر تنتهي حين يبطئ القطار عجلاته فوق قضبان السكة الحديدية، حين يتوقف تماماً وتخيم أجواء السكون علي ذلك القطار المجنون الذي كان يصارع الرياح متجها من مدريد إلي الجزيرة الخضراء وأخيرا قد وصل القطار الي المحطة الاخيرة من المرحلة الأولي، وها هي تنزل بتي وأطفالها من القطار لتركب الباص، وهو المرحلة الثانية بالسفر إنها مرحلة قصيرة من حيث المدة الزمنية، تستغرق اقل من ساعة، تبدأ من الجزيرة الخضراء متجهة نحو الباخرة لتبحر نحو ميناء طنجة القديم ،وكلما يتقدم الباص قليلا كلما بعث بالأمل علي قرب موعد اللقاء وتلاقي قلوب الأحبة بتي وأمها رحيمو لتعانقها بحرارة في يوم عيد الام، وما هي الا دقائق معدودة لم تكمل عقارب الساعة دورتها الكاملة لم تصل الي ستون دقيقة حتي وصلت الحافلة وبتي نزلت من الباص وجهزت أوراقها وصعدت إلي الباخرة .

هنا تبدأ المرحلة الثالثة من السفر وهي مرحلة تشعر فيها بخفقان القلب بشدة فرحا وطربا وحبا وشغفا يزداد حين أبحرت الباخرة لتسير نحو ميناء طنجة القديم لمدة خمسة وثلاثون دقيقة لكنها تشعر بأنها خمسة وثلاثون ساعة .

ومن حين إلي آخر تصعد الي سطح الباخرة تنظر الي مدينة طنجة لتشاهدها من بعيد وتشاهد جمالها الساحر الخلاب، وكان الجو بارد ليلا والرياح شديدة ولكن حرارة الشوق تغلب كل الظروف البيئية وما أجمل طنجة ليلا حين تشاهدها من البحر وهي تتلألأ كنجمة علي الأرض أنوارها وبريقها يلمع في كل مكان،

وحين تنظر إليها تجدها أجمل نجمة ذلك قبل بزوغ الفجر بقليل.

وحين شقشق النهار ونسجت الشمس خيوط أشعتها الذهبية بدأت بتي تلمح من بعيد منازل مدينة طنجة الجميلة تلك المنازل البيضاء وتقول في نفسها كم أشتاق إليك يا مدينتي وما اجمل تلك اللوحة الفنية الجميلة لمدينتي الساحرة، حينما تقترب الباخرة أكثر فأكثر وتتضح معالم المدينة الجميلة وبتي تناظر الساعة وتعد الدقائق وما هي إلا لحظات حتي رست واستقرت الباخرة في الميناء معلنة السلامة بالوصول لجميع الركاب في ميناء طنجة القديم وهنا تبدأ دموع الشوق بالسيل من بين مدامعها فرحاً وشوقا بلقاء الأهل والأحبة وما أن نزلت بالميناء فوجدت والدها وأمها في انتظارها بالميناء وعناق حميم مع الأهل تكاد تتكسر فيه الاضلع، والقلوب تعانق بعضها بخفقان شديد وبتي تبكي وتقول لأمها ها أنا قد وصلت في يوم عيدك يا أمي عيد الأم كل عام وأنت حبيبتي يا أمي كل عام وأنت بخير بألف ألف خير أحبك .

فما أجمل لقاء الأحبة تلك هي لحظات تمحو خلالها كل متاعب السفر وتزول معها كل الهموم وهكذا كان يسير قلمي تارة فوق القضبان وتارة علي اليابسة وتارة أخري كان أيضا يسير فوق البحر ليملأ من ماءة حبرا ومن دموع الشوق لونا لذلك الحبر وهكذا خطت حروف كلماتي لتصل إلي قلوبكم الرائعة .

بقلم/ هاني مصبح