كثيراً ما استوقفتني أغنية فيروز "أنا وشادي"، أبحث عن المعنى القابع في صورة الصبي الذي غيبته الحرب، عشرون عاماً مرت دون أن تلتقيه ودون أن تنسل صورة طفولته من حياتها، ترى هل صورته العالقة في ذاكرتها هي لفلسطين قبل النكبة سيما وأنها غنتها بعد عقدين من النكبة، أم أنها تسترجع بها طفولة ضاع بطلها ومعه تلاشت احلامها، لا أعرف السبب الذي دفع الشاعر السوري الثائر والأديب الساخر "محمد الماغوط" إلى ان يختار من بين روائع فيروز تلك الأغنية لتكون رفيقته الأجمل مع فنجان قهوة الصباح، وكيف تنازل صاحب "ضيعة تشرين وغربة" عن كلماته الساخرة لواقعنا المرير ليرقب شادي وهو يلعب على الثلج؟، واي صورة تلك التي يسترجعها الماغوط من الماضي عندما يصغي لفيروز وهي تشدو بحكايتها مع شادي؟، هل يستعيد بها ذكرياته في الزنزانة المجاورة لزنزانة أدونيس في سجن المزة؟، ذلك السجن القابع على هضبة تطل على احياء دمشق نزل فيه الرؤساء والأدباء على حد سواء، تراهم دمشق ولا يرونها.
كل منا يحاول أن يفتش في الماضي عن صورة تعيد إليه شيئاً من جمال الحكاية، كلما حاول شادي ابو شقرة فعل ذلك يتعثر في جثامين الشهداء الذين سقطوا من حوله عام 2002، يوم توغلت آليات الاحتلال ليلاً في مدينة خان يونس، وقبل أن تعود أدراجها مع ساعات الفجر الأولى اطلقت طائرة حربية صاروخاً صوب المواطنين، سقط منهم الشهداء وصرخ البعض الآخر من جراحه، كان شادي من بين الجرحى الذين شقت بهم سيارات الاسعاف ظلمة الليل، العديد من الشظايا سكنت جسده، بعد عمل شاق للأطباء في مستشفى ناصر تمكنوا من انتزاع غالبيتها وتضميد جراحه، لكن البعض منها ما زال يقيم في جسده حتى يومنا هذا، لم تكن هي مصدر ألمه بقدر ما فعلته تلك التي استهدفت النخاع الشوكي وأفقدته القدرة على الحركة.
بات شادي من يومها اسير مقعده المتحرك، لم يفتر ذلك من عضده ولم تتراجع عزيمته، يحرص على المشاركة في المناسبات المختلفة كلما سمح له وضعه الصحي بذلك، ينشط في مساعدة زملاء له من ذوي الإحياجات الخاصة، ما يؤرقه لا يتعلق بالشلل الذي أصابه وهو يشق خطوات شبابه الأولى، بل تلك الالتهابات التي تقتحم جسده بين فترة وأخرى رغم حرصه على الأخذ بتوصيات الأطباء، تضطره لأن يمكث في المستشفى لأيام عدة حتى يتعافى قليلاً ليعاود حياته بمكوناتها البسيطة، لا تلبث أن تعاودة من جديد، ليست حالة شادي هي الوحيدة من بين الجرحى الذين يفتقدون للرعاية المطلوبة، العديد منهم يصارع جراحه في ظل غياب الجهة الحاضنة لهم ولإحتياجاتهم.
دوماً ما تأخذنا الأسماء إلى المساحة التي تتواجد في حروفها، نستحضر من خلالها صورة من الماضي أو تتركنا في رحاب الحاضر، فيروز راحت تبحث عن ماض كان الصبي "شادي" جزءاً منه، فيما شادي المقيم بيننا يجمع بين اشراقة الماضي وآلام الحاضر، يعيش مع آلامه التي تزداد حدتها كلما أهملنا صراخه، يصرخ على سريره في المستشفى عل صوته هذه المرة يتجاوز به حدود التجاهل، ويقطع به المسافة الممتدة بين الجغرافيا المتباعدة، ليت صرخة شادي يتم استقبالها على النحو الذي يليق بها.
بقلم/ د. أسامه الفرا