مقاطعة الاحتلال... إرادة لا قرار

بقلم: عدنان الصباح

غريب أمر شعبنا الذي ينتظر منذ مائة عام قرارات رسمية بشان مصيره وقضاياه فنحن لا زلنا ننتظر قرارا أمميا باستقلالنا بل ونطالب بقرارات وقرارات جديدة ومع أن الفرصة أتيحت لنا مرارا لنعلن إقامة دولتنا على الأرض فعلا وخصوصا أيام الاستعمار البريطاني وما تلاها إلا أن أية محاولة جدية لم تقم على الأرض فعلا وظللنا نحاور أنفسنا مطالبين برضى الآخرين عنا لمنحنا قرارا يجيز لنا أن نمارس العيش على أرضنا علما بان كل شعاراتنا ومطالباتنا قائمة على الشعار القائل بالحقوق الوطنية المشروعة ولا احد يمكنه القول أن هناك حقوقا ما يمكن أن يتم منحها من سارقيها لصاحبها لان ضميرهم قد عاد للعمل فجأة لهذا السبب أو ذاك.

هذا الحال ينسحب على كل جوانب حياتنا فنحن كما عشنا ولا زلنا ننتظر قرار الغير بشأننا لعلنا نتمكن من تنفيذه على الأرض بشان مجمل القضية الوطنية فإننا كذلك في شؤوننا اليومية فمن الذي يتدخل مثلا في منعنا من أن يكون لدينا نظام تعليمي وتربوي متطور وعصري ومن الذي يمنعنا من أن تكون لدينا سلطة شفافة متقشفة إلى ابعد حد ممكن ومن الذي قرر أن مسئولينا يجب أن يمتطوا صهوة احدث وافخر وأغلى السيارات والمكاتب والفنادق والمطاعم ولدينا شعب من الجياع على ارض مصادرة من ساسها لراسها, والأخطر من كل ذلك هو أننا لا زلنا ومنذ مطلع القرن العشرين وظهور شعارات المحتلين والمستوطنين الأوائل عن العمل العبري الجيد والعمل العربي السيئ وإصرارهم على مقاطعة كل منتج عربي أيا كان بعيدا عن جودته أو رداءته في حين أننا كنا ولا زلنا نتغنى نحن أيضا بجودة العمل العبري رغم أننا نعرف جيدا انه شعار عنصري معادي لشعبنا ووجودنا على الأرض وفي الحياة.

أن تنتظر قرارا رسميا مكتوبا ومعلنا لتغير سلوكك في مسالة تخص وجودك الوطني وثقافتك وقيمك فهذا دليل عجز قاتل وغياب حقيقي للوطنية وقيمها من العقل والسلوك الفردي والجمعي فالشعوب لا تحتاج لقرارات لمقاطعة عدوها إن هي آمنت فعلا انه كذلك وانه يسرقها ويسرق أرضها ومع ذلك فإننا لا زال بيننا من يرحب بالتجارة بالمنتجات العبرية رغم إدراكنا أنها تخص عدو قاتل يمارس فتلنا وتشريدنا وتهويد أرضنا يوميا فأي مرض خبيث هذا الذي نعيشه والأغرب من ذلك أن أحدا فينا لا يعتريه الخجل وهو يستخدم منتجات وأدوات بل وكلمات ومسميات عدوه.

ذات يوم طلبت من نادل مقهى يوناني فنجان قهوة تركية فاستشاط الرجل غضبا وكاد أن يقلب الطاولة على راسي وهو يصرخ إنها قهوة يونانية ولم يهدأ الرجل إلا حين افهمه صديقي الذي يتقن اليونانية أنني فلسطيني فسكت ذلك النادل احتراما لموطني وليس لي طبعا وحين فهمت من صديقي لماذا تنازل عن غضبه الشديد كدت الحق به لاعتذر له عن استخدامي لكلمة ( مزجان ) بدل كلمة مكيف وكلمة ( مخصوم ) بدل كلمة حاجز حتى العصائر في لهجتنا صارت ( تبوزينا ) ثم يأتي من يتحدث عن قرار حكومي بمنع المنتجات الإسرائيلية من دخول أراضي السلطة الفلسطينية ويأخذ القرار شكل التمهل حتى نفاذ المخزون أليست هذه قمة المأساة أننا سنستهلك كل منتجات أعداءنا ثم نتوقف عن ذلك إن تمكنا أصلا من تحقيق ما لم نتمكن من تحقيقه رغم نكبة 1948م وهزيمة 1967م وكل الحروب العدوانية اليومية على كل شعبنا وأرضنا وامتنا فلا زالت إسرائيل تحتل الجولان ومزارع شبعا وتمنع مصر من حقها المطلق في سيناء ومع ذلك لا تهتز لأحدنا رقبة من استخدام كلمة عبرية لتسمية أشياءنا وفهم حوارنا بيننا فأي شعب هذا يقبل احتلال العدو لعقله ولسانه ثم يتحدث عن المقاطعة بقرار.

إبان الاحتلال النازي للدنمارك أصدرت قوات الاحتلال النازية قرار بإلزام اليهود بلبس صدريات منجمة ليسهل التعرف عليهم فقرر الشعب الدنمركي جميعه بما فيهم الملك نفسه أن يلبسوا تلك الصدريات حتى لا يتمكن النازيين من التعرف على اليهود دون غيرهم وحكاية مسيرة الملح في الهند ماثلة للعيان لدى كل شعوب الأرض ويذكر العالم كيف تمكن مارتن لوثر كينغ عام 1955م من ارضاخ شركات النقل الأمريكية بإيقاف التفرقة بين السود والبيض بعد أن قاد حملة لمقاطعتها لسنة كاملة فخسرت شركات النقل 70% من مستخدميها في حين يسعد المميزون في بلادنا ببطاقات الشخصيات الهامة التي تمنحها سلطات الاحتلال لهم ويسعدون باستخدامها علنا على مرأى ومسمع من شعبهم المقهور.

إن الإرادة الشعبية الحقيقية هي الوسيلة الوحيدة القادرة على تحطيم أدوات العدو في فرض احتلاله على بلادنا ومادام شعبنا مستعد لقبول التعاطي مع الاحتلال وأدواته وإجراءاته فان ذلك يعني ببساطة أن قضية التحرير لا زالت في أدراج خيالنا البعيد فلا بديل إذن عن إرادة الشعب كل الشعب بمقاطعة عدوه دون قرارات وإجراءات رسمية لا يمارسها من يتخذونها ما داموا يقبلون بتميزهم عن شعبهم عبر منح إحتلالية لبطاقات خاصة تتيح لهم الانتقال الخاص والمميز على حواجز الاحتلال وممرات مستوطنيه في حين يمارس الاحتلال كل صنوف القهر والإذلال بالتفتيش الجسدي والتعذيب ضد سائر أبناء الشعب, فلو قرر كل الشعب يوما على سبيل المثال أن يرتدي قمصان شفافة وان يحمل كل فلسطيني سكينا مطاطيا خلال تنقله على الطرقات وعبر الحواجز بما في ذلك المسئولين الرسميين وقادة الفصائل والانتقال بشكل مجموعات تخيف المستوطنين وتغلق عليهم قدرتهم على التنقل فكم من الوقت إذن سيحتملون وهم حبيسي مستوطناتهم وكم سيقتلون من حملة السكاكين المطاطية.

قد نكون فعلا بحاجة لقرار حكومي باستئصال الفساد ومنع التزوير بالمنتجات وتوزيع المنتجات الصهيونية التالفة ومنتهية الصلاحية باعتبار هذه التهم ضمن تهم الخيانة الكبرى ومعاقبة مرتكبيها بهذا المستوى وإلزام أصحاب المصانع الوطنية بإنتاج أفضل يتفوق مضمونا وشكلا عن إنتاج أعداءنا ورواتب أفضل لعمالنا ومنعهم من استرقاق العمال برواتب لا تفي ثمن الخبز فان ذلك سيدفع بالشعب كل الشعب لاحترام منتجه الوطني ومنتجيه ويرفع من مستوى انتماءه لهم ولسلعهم الوطنية ولقيادته التي تلتزم بالقرار بذاتها قبل اتخاذه عبر سلوك يقدم النموذج ككل قادة الشعوب التي حققت انتصارها بقوة إرادتها.

بقلم/ عدنان الصباح