على شرف ذكرى يوم الأرض التي تصادف يوم الثلاثين من أذار من كل عام، والتي يحييها الفلسطينيون في كافة أماكن تواجدهم، ليبقى هذا اليوم خالداً بعبق الشهادة في سجل البطولة والتضحية والفداء في سبيل الحرية والدفاع عن الأرض والكرامة والهوية، فتعطرت الأرض بأطهر الدماء. يوم الأرض الذي انطلقت شرارته الأولى من أراضي الثمان والأربعين احتجاجاً على التعسف والاضطهاد وسياسة مصادرة الأراضي والاستئصال والتهويد والقتل والإرهاب التي يمارسها العدو الإسرائيلي، لقد كان يوم الأرض إعلاناً لحالة التحدي الجماهيرية الغاضبة ضد مصادرة الأراضي العربية، وترسيخاً للوعي الوطني الجماعي، وتثبيتاً للدور الجماهيري والطليعي للمؤسسات والأطر التمثيلية، فقد قلبت أحداث يوم الأرض بعنفها وشموليتها وتنظيمها كل توقعات العدو، فبعد 28 عاماً من الاحتلال انفجرت براكين الغضب ضد المصادرة والتهويد والقهر الذي عانى منه الفلسطينيين.
ومع تصاعد الأحداث التي بلغت أوجها في آذار 1976بقيام سّلطات الاحتلال بمصادرة 21 ألف دونم من أراضي عرابة وسخنين ودير حنا وعرب السواعد وغيرها في منطقة الجليل ذات الملكيّة الخاصّة والمشاع في حدود مناطق ذو أغلبيّة سكانيّة فلسطينيّة وتخصيصها للمستوطنات في منتصف السبيعات بحجة "تطوير الجليل" والذي كان في جوهره "تهويد الجليل"، وعلى أثر هذا المخططات العنصرية، فإن لجنة الدفاع عن الأراضي قد قررت إعلان الاضراب العام الشامل في 30 أذار احتجاجاً على سياسة المصادرة والتهويد، كما تقرر تنظيم مظاهرة أمام الكنيست الإسرائيلي يقدم فيها المتظاهرون احتجاجاً لإلغاء مشاريع مصادرة الأراضي، وارسال وفد إلى الأمم المتحدة للتنديد بسياسة التهويد والمصادرة والتمييز. وكان قد سبق ذلك مصادرة ما يقارب مليون دونم من أراضي الجليل منذ عام 1948 حتى عام 1972وفق قانون "أملاك الغائبين"، كما صودر ملايين الدونمات بعد تهجير وتشريد أكثر من 850 ألف من الفلسطينيين، ورغم ارتفاع عدد الفلسطينيين المتبقيين داخل الخط الأخضر من 156 ألفاً عام 1948 إلى نحو1730000 في عام 2015، أى حوالى 20.7٪ من مجمل عدد السكان في دولة الاحتلال، فإنهم لا يملكون سوى 3% من الأراضي التي أقيمت عليها دولة الاحتلال عام 1948 في ظروفٍ دولية وإقليمية استثنائية.
ورغم إعلان حظر التجول على القرى الفلسطينية، والاعلان بأن جميع المظاهرات غير قانونية، والتهديد بإطلاق النار على المحرضين والمشاركين، فقد عم اضراب عام ومسيرات من الجليل إلى النقب وفي كل أنحاء البلدات العربية المحتلة عام 1948م، وكالعادة كان رد العدو الإسرائيلي رداً عسكرياً وحشياً، حيث اجتاحت قوات الاحتلال مدعومة بالدبابات والمجنزرات القري والبلدات العربية، وأخذت بإطلاق النار عشوائياً فسقط الشهيد/ خير محمد ياسين (23) من قرية عرابة، وبعد انتشار الخبر في صبيحة اليوم التالي 30 أذار انطلقت الجماهير العربية في تظاهرات عارمة غاضبة سقط فيها خمسة شهداء وهم: الشهيد/ خضر عيد خلايلة (23) من سخنين، والشهيدة/ خديجة قاسم شواهنة (23) من سخنين، والشهيد/ رجا حسين أبو ريّا (30) من سخنين، والشهيد/ حسن سيد طه (15) من كفر قنا، والشهيد/ رأفت علي زهيري (21) من مخيم نور شمس واستشهد في الطيبة. إضافة إلى (49) جريحًا، ونحو (300) معتقل، وقد عمت إضرابات تضامنية متزامنة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الدول المجاورة.
لقد شكل الثلاثون من آذار عام 1976 منعطفاً تاريخياً في كفاح الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة عام 1948، فأهمية يوم الأرض لا تنبع كونه يوم تحدٍ لسلطات الاحتلال الإسرائيلية فحسب وإنما لكونه يتمحور حول جدلية العلاقة العضوية بين الشعب الفلسطيني والأرض، وجاء يوم الأرض تأكيداً لبيان حقيقة الانتماء الوطني لهذه الجماهير، ورفضها مصادرة ما تبقى من أرضها، الأمر الذي يُعتبر تأكيداً لرفض كل ما صُودر، كما كان بمثابة إعلاناً واضحاً من الجماهير الفلسطينية بتمسكها بأرضها ورفض اقتلاعها منها. إن هبّة يوم الأرض لم تكن وليدة صدفة بل كانت نتيجة طبيعية لمجمل الأوضاع في فلسطين المحتلة منذ قيام الكيان الصهيوني، حيث عانى الفلسطينيون كثيراً من سياسة التهويد وسرقة الاراضي والممتلكات بالقوة، فكانت هذه الهبة لردع الاحتلال والتصدي لمخططاته في مصادرة الأراضي وتهويديها، وجسدت هبة عربية جماهيرية مميزة للداخل الفلسطيني ساقت الجماهير نفسها إلى مواجهة غير مسبوقة وغير متوقعة، وعبرت عن حالة التلاحم والتكاتف بين الجماهير العربية، وأكدت على العلاقة القوية بين الذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني وللهوية الوطنية.
لقد جاءت أحداث يوم الأرض مميزة بتحول نضالي قائم على الفعل والمبادرة، قبل أن تكون قائمة على رد الفعل، وقد أبدت الجماهير يومها استعداداً كبيراً للمشاركة والتضحية والمقاومة، وكانت أحداثه ضخمة والمشاركة فيه واسعة؛ مما دفع سلطات الاحتلال الإسرائيلية لقمع المسيرات بشكل وحشي. إن يوم الأرض يعتبر حدثاً محورياً في الصراع على الأرض، وفي علاقة المواطنين العرب بالجسم السياسي لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وهو بذلك يشكل محوراً أساسياً في تطور الوعي السياسي لدى الداخل الفلسطيني, حيث أن هذه كانت المرة الأولى التي يُنظم العرب في فلسطين المحتلة منذ عام 1948 احتجاجات جماعية وطنية رداً على سياسة المؤسسة الصهيونية الهادفة لتهويد الأراضي الفلسطينية، وبالتالي مثلت ولادة حقبة تاريخية نضالية جديدة للداخل الفلسطيني.
لم يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ فاستمرار الهجمة الاستيطانية في مناطق الضفة الغربية، وخطوات تهويد القدس، حيث أصبح ما يقارب من 88% من أراضي فلسطين التاريخية تسيطر عليها حكومة الاحتلال الإسرائيلي، ناهيك عن تدمير ألاف المباني التي تُعتبر المأوى الوحيد للأسر الفلسطينية، وتضيق الخناق على تشييد المساكن للفلسطينيين واستغلال ونهب الثروات الطبيعية، ويقابلها منع أهل الأرض من استغلال ثرواتهم بسبب القيود دولة الاحتلال، ولم تتوقف الانتهاكات عند هذا الحد بل دعمت بجدار الفصل العنصري الذي ابتلع أكثر من 10% من مساحة الضفة الغربية، مع تنامي عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية الذي بلغ حوالي 6.22 مليون (في داخل الخط الأخضر والقدس والضفة الغربية وقطاع غزة) نهاية عام 2015 وأكثر من 7 ملايين لاجيء فلسطيني في الشتات والمهاجر والمنافي ينتظرون العودة إلى موطنهم الأصلي "فلسطين"، في حين بلغ عدد اليهود 6.22 مليون جاءوا مهاجرين ومستوطنين ومحتليين من كل بقاع الأرض منذ إنشاء دولة الاحتلال على أرض فلسطين التاريخية في 14 أيار 1948، بعد أن قامت العصابات الصهيونية بارتكاب مئات المجازر لإثارة الرعب والفزع في أوساط العرب المواطنين الأصليين في فلسطين بهدف تهجيرهم وطردهم من ديارهم والسيطرة على أملاكهم.
واليوم، تأتي الذكرى الأربعون ليوم الأرض في ظل المؤامرة الدولية لإعادة خارطة بعض الدول العربية: السياسية والكيانية والاقتصادية والثقافية والأيدولوجية والدينية والعقائدية والمذهبية والطائفية، مما شجع الغطرسة والإرهاب الإسرائيلي على إرتكاب المزيد من جرائم الإعدامات الميدانية ضد النساء والأطفال والشباب العزل في مناطق القدس والضفة الغربية، وتطاوله بالقفز عن الحقوق العربية، واستعلائه على القرارات الدولية، وتنكره للمواثيق الدولية، وترقبه للانقضاض على الفريسة واستكمال المشروع الصهيوني التوسعي؛ فجاءت هبة القدس الجماهيرية في القدس والضفة الغربية ومناطق أل 48 وصولاً إلى قطاع غزة، نتيجة محاولات المساس بالمقدسات الدينية بعد سلسلة اقتحامات الصهاينة المتكررة للمسجد الأقصى، ومحاولة فرض التقسيم الزماني والمكاني فيه، وعمليات التنكيل والقتل والحرق، وهدم المساكن الفلسطينية، ومصادرة الأراضي، وتهويد القدس، وبناء الجدار العازل، واقامة الحواجز العسكرية (حواجز الموت) لتقطيع أواصر مدن الضفة الغربية وبلداتها لتسهيل اقتحاماتها، والاعتقالات والاغتيالات المستمرة، وزيادة الاستيطان، والحروب المدمرة المتكررة التي تشنها ألة الاحتلال العسكرية على قطاع غزة، وفرض حصارٍ ظالم عليه، الأمر الذي أدي الي زيادة معدلات الفقر والبطالة واليأس، مما قد يدفع البعض نحو توجهاتٍ غريبة.
ويبقى تعزيز الوجود العربي البشري والمادي داخل المناطق المحتلة عام 1948 ضرورة وطنية، فالمجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر بادر وشارك في كافة مراحل العمل الوطني الفلسطيني، كما أن كافة الأحزاب العربية داخل الخط الأخضر رفعت شعارات ضرورة إقامة الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع وعاصمتها القدس الشريف، هذا في الوقت التي تسعى فيه إلى تحقيق شعارات مطلبية في المقدمة منها العدالة والمساوة في العمل والدخل والتعليم والصحة والتملك والموازنات. إنَّ ضرورة تحسين الظروف المختلفة تعتبر الأهم في المدى البعيد لتفويت الفرصة وافشال الأهداف الصهيونية التي تهدف إلى التخلص وطرد العرب الفلسطينيين من داخل الخط الأخضر إلى الضفة الغربية أو إلى خارج حدود فلسطين التي دعا لتنفيذها أكثر من مسؤول إسرائيلي، ومواجهة وإحباط المشاريع العنصرية الداعية لترسيخ فكرة يهودية دولة الاحتلال الإسرائيلي، والحد من محاولات التنكيل التي تقوم بها سلطات الاحتلال ضد العرب، ويبقى يوم الأرض يوماً وطنياً ملهما للإبداع النضالي يغذي الذاكرة الجماعية االفلسطينية، ويعزز الصمود والتحدي والبقاء.
بقلم/ د. عاطف شعث
