تكثر أجهزة الأمن الإسرائيلية مؤخراً من الحديث عن تراجع حدّة الهبة الفلسطينية في الأراضي المحتلة وتعرض لهذا السبب بين الحين والآخر جداول ومعطيات حسابية. ومن المؤكد أنها ترمي من وراء ذلك للإيحاء بأن جهودها في مواجهة الهبة مجزية وأن الظروف تتحسّن سواء عبر العلاقة مع السلطة الفلسطينية أم عبر سياسة "ضبط النفس". ومع ذلك فإن التقديرات الأمنية الإسرائيلية تتحدّث عن تخوّفات من احتمال عودة التصعيد في هذه الهبة التي لم تعد تُصرّ على تسميتها "موجة إرهاب"، وإنما صارت تقرّ بأنها انتفاضة ثالثة.
وفي كل الأحوال فإن الأداء الرسمي الإسرائيلي تجاه الانتفاضة يظهر حجم الخلاف بين المستويين السياسي والعسكري. وفيما تتراجع شعبية رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يصطدم بانفضاض متزايد للجمهور من حوله رغم تبنّيه لأيديولوجيا التقرّب من الرأي العام يجد الجيش نفسه يدير سياسة. ومؤخراً بدا رئيس الأركان الجنرال غادي آيزنكوت وكأنه يختط للجيش سياسة مغايرة للسياسة التي يريد نتنياهو واليمين انتهاجها. ويبرز الخلاف بشكل جوهري أكثر من أي مجال آخر في الموقف من السلطة الفلسطينية وفي تحديد دوافع الانتفاضة الحالية وسماتها.
فنتنياهو، ومن خلفه الائتلاف اليميني الذي يقوده، والرافض أصلاً لمبدأ الحل على أساس دولتين لشعبين، معني باتهام السلطة الفلسطينية ورئيسها بأنه يقف خلف "موجة الإرهاب". ومثل هذا الموقف يساعد نتنياهو ليس فقط على تحريض الشارع الإسرائيلي ضد أي مفاوضات مع السلطة وإنما يوضح للقوى الدولية أن لديه مبرراً في عدم الجلوس إلى طاولة مفاوضات والتساهل مع السلطة.
ولكن الجيش الإسرائيلي الذي يرى الكثير من المخاطر التي تحيط بالدولة العبرية ويحاول أن يكون متأهباً لمواجهتها يعمل على إبعاد نفسه قدر الإمكان عن التورط في إدارة الاحتلال بأكثر من قدراته. وتظهر المعطيات أن الهبة تشغل حالياً حوالي 28 كتيبة من الجيش في حين أن تصاعد الهبة قد يضطر الجيش إلى إشغال ما لا يقل عن 100 كتيبة. وعدا ذلك فإن التصعيد في الضفة الغربية يقود بالضرورة إلى تصعيد لاحق مع القطاع والذي غالباً ما ينتهي إلى حرب تتطلّب قدرات وموارد وقوات ليست قليلة.
وخلافاً للأوضاع على الجبهات الأخرى، يعرف الجيش الإسرائيلي أن صراعه مع الفلسطينيين لا يسمح له أبداً بتحقيق نصر حاسم أو حتى ردع نهائي. فأي عملية إسرائيلية مهما كبرت لا يمكنها أن تحول دون عودة المقاومة للفعل أكثر من أيام أو أسابيع. ولذلك فإن كل جهد يبذله الجيش على هذا الصعيد لا يضمن تحقيق نتائج على المدى البعيد. وهذه سنّة الحياة مع المقاومة والتي تدفع الجيش قبل غيره للإعراب طوال الوقت عن قناعته بعدم توفر حل عسكري وعن الحاجة للتفكير في حل سياسي.
وهنا يتجه الجيش لإظهار اختلافه عن المستوى السياسي منطلقاً ليس فقط من قناعة وإنما أيضاً من مصلحة. فهو يريد القول للإسرائيليين الذين يعرفون أن لا وجود لهم من دون جيشهم، أن عجزه عن حسم المعركة مع الفلسطينيين لا يعود إلى خلل في بنيته وأدائه بمقدار ما يعود إلى خلل في أداء الحكومة التي تعجز عن الاستفادة من الظروف التي توفرها العمليات العسكرية. وباختصار الجيش معني طوال الوقت بالقول للجميع طالبوا المستوى السياسي بالعثور على حل، فكل دورنا هو السعي للمحافظة قدر الإمكان على الهدوء إلى حين العثور على الحل السياسي.
ولكن من الواضح أن استمرار الصراع بين المستويين السياسي والعسكري من دون حسم قاد واقعياً إلى تلاشي فرص الحل السياسي. فالمستوطنات، التي بات العالم بأسره يعرف أنها عقبة أمام السلام تتجذّر بصفتها كذلك. وهناك بين الإسرائيليين مَن يقولها بقناعة متزايدة، مَن أرادوا المستوطنات كعقبة أمام السلام، وخصوصاً بعد اتفاقيات أوسلو، أفلحوا في ذلك أكثر من سواهم. والمسألة لم يعد بالوسع حلها عبر فكرة تبادل أراضٍ وإنما صارت أعقد من ذلك. فوجود المستوطنات يحول فعلياً دون أي تواصل جغرافي بين أراضي السلطة الفلسطينية من جهة ويساعد في استمرار السيطرة الإسرائيلية فعلياً عليها.
وأمام هذا الواقع تتبارى مختلف الجهات في إسرائيل في الدوران حول النفس بحثاً عن سبل موضوعية لحل من دون أن تعثر على ذلك. حكومة نتنياهو، التي وافقت لفظاً على مبدأ دولتين لشعبين تعجز حتى الآن عن تعريف هذه الموافقة ورسم حدودها. ومؤخراً قالت الإدارة الأميركية أنها تشك في أن حكومة نتنياهو لديها ما يثبت تمسكها بهذا المبدأ. ولكن ما هو أهم من ذلك أن العديد من قادة الليكود ومن وزرائه لا يخفون رغبتهم حتى في التخلص من السلطة الفلسطينية، وثمة بينهم من يؤمن أن التخلص من السلطة يلغي اهتمامات الفلسطينيين بالمقاومة ويبدّد اهتمام العالم بالقضية.
ومع ذلك، لا شيء أوضح اليوم مما كان معروفاً للفلسطينيين منذ زمن بعيد: القضية الفلسطينية باقية ما بقي الفلسطيني على أرضه وما بقي لدى العرب إحساس وأمل بأنهم بحاجة للوحدة على طريق المستقبل وما دام في العالم مَن يقف إلى جانب الحق. ومرة تلو مرة سواء ارتفعت الموجة أو تدنّت تدرك إسرائيل فعلاً أن الفلسطيني لن يتخلَّ عن حقه. فالهبّة الجارية قالت، كما سبق للانتفاضات والهبات السابقة أن قالت: لا سلم ولا هدوء قبل أن ينال الفلسطيني حقه وأن إسرائيل إلى زوال.تقرير لصحيفة " السفير" اللبنانية