هل فكر سيادة الرئيس واستشار من الغيارى والأخيار كي يحسن الاختيار؟ بالتأكيد، لم يفكر ولم يستشر، حتى وإن استشار فإنه بالقطع لم يحسن اختيار من يستشار!!! ما هذا الذي يجري؟!
في مرسومه الرئاسي القاضي بتشكيل أول محكمة دستورية في فلسطين نرى اختيار قضاة يعد بعضهم (حسبما نعلم) أعظم وصفة لتطوير الفساد في بلادنا وتدمير قضائنا وهتك عرض محاكمنا!
أيعقل أن يصل الإيغال في الفساد، يا سيادة الرئيس، حد اختيار قضاة مارسوا الفساد في أحط مستوياته وأبشع صوره وأرخص مشاهده؟! أيعقل أن يكون من قضاة المحكمة الدستورية في فلسطين الثائرة من سرقوا كتب غيرهم وسطوا على أبحاث من سواهم؟! كيف يمكن لفلسطين أن تستعاد يا سيادة الرئيس فيما نراك تُجلس على رقاب شعبنا فاسدين على أنهم قضاة بالعدل يحكمون ؟! كيف تفكر يا سيادة الرئيس؟! ومن هم أولئك الذين تستشيرهم فيشيرون عليك بما يهلكك ويهلك الوطن ويهلكنا قبلك ومعك وبعدك؟! هل بلغ العقم في بلادنا الولادة إلى أن تختار للمحكمة الدستورية، يا سيادة الرئيس، قضاة يصلح بعضهم عناوين فساد وإفساد؟! هذه هي الطامة الكبرى، يا سيادة الرئيس!
أتسمعني يا سيادة الرئيس؟! لعلك تسمعني، فأقول: لا يا سيادة الرئيس وألف لا! إنك تستطيع أن تفعل ما تريد إلى حين، لكنك لن تستطيع أن تفعل ذلك في كل حين! وتستطيع أن تفرض ما تريد، لكنك لا تستطيع أن تفرض علينا أن نقبل ما تريد.
إننا نقول: كفى يا سيادة الرئيس من مثل هذا الذي تفعل، لا لشيء إلا لأنه "لا لفاسد أن يصلح فيتبوأ أو لضعيف أو فاشل أن يرفع فيتربع".
سيادة الرئيس: نحن الآن في زمن "الضرورات"... والضرورات تلزمك بمساءلات ومحاسبات لا مصرف عنها، فضلاً عن أن هذه "الضرورات" تقضى بالحتمية أنه " لا لفاسد أن يتبوأ فَيسوَّد ليصلح، ولا لفاشل أو لضعيف أن يسند إليه أمر الناس و ينجح أو ينجز"، وإلا فإنك تكون، يا سيادة الرئيس، قد عقدت العزم على استبعاد أولي العزم، بغية تحييدهم عن المشاركة في همِّنا وعن تحفيزهم لنا واستنهاضهم لهمتنا، وعلى نفيهم من وطنهم الذي هو وطننا، فتكون بذلك، يا سيادة الرئيس، قد اخترت – ومع سبق إصرار منك وترصد – حب الفشل لنا سبيلا، فتبارك الفاشلين على فشلهم، ومواصلة الفساد والإفساد، فترفع من قدر الفاسدين والمفسدين، ترسيخاً لنهج الفساد في فلسطيننا، وتجذيراً للمفسدين فيها لتجعلهم أئمة لنا وقادة علينا، واستخدام الضعيف ليصلح أمرنا، فيعم الخراب في كل أنحائنا، لتصبح بلادنا خراباً لا زرع فيها، ولا خير، ولا جمال، ولا ماء، ولا نماء، فلا نتوفر – وحالنا كذلك - على دواء لنا يقهر الداء فينا.
سيادة الرئيس: إن كنت غير قادر على الإصلاح، فلا يمنعنك شيء – مهما كبر – من محاولة الإقلاع نحوه لتحقيقه، أو ملامسته، أو الاقتراب منه، على أقل تقدير، فالأصل أنك لا تريد، ما جعلك تخرج المحكمة الدستورية على الصورة التي نراها كي يصبح الفساد في بلادنا ليس وسيلة فحسب، بل وغاية أيضاً!!!
إن الحياة التي يعيشها الآدميون في هذه الدنيا، يا سيادة الرئيس، نوعان وصف الفارابي إحداهما بأنها بـ " المدينة الفاضلة " والأخرى بأنها " المدينة غير الفاضلة". فالمدينة الفاضلة عنده هي مدينة يتجمع أهلها للتعاون على الأشياء التي تنال السعادة الحقيقية بها. إذاً، فالمدينة الفاضلة غايتها – عند الفارابي – تحقيق السعادة التي هي أسمى الخيرات وأنبلها، والتي لا تتحقق، أبداً، إلا إذا مارس رئيس المدينة أو واليها كل عمل محمود، عن إرادة وفهم متصلين، لتنمية خصال الخير الموجودة فيه بالقوة، لتصير ملكةً راسخةً فيه بالفعل. فالممارسة تولد العادة، خيرةً كانت هذه العادة أو شريرة، فاضلة أو رذيلة .
أما الفضيلة في "المدينة الفاضلة"، فهي وسط يبين الإفراط في التصرف والتفريط فيه، والعمل الصالح هو العمل المتوسط، فالشجاعة مثلا هي وسطية بين الجبن والتهور، تماماً كما الكرم وسط بين الشح والتفريط.
ولكي تتحقق السعادة التي هي غاية للفارابي في مدينته الفاضلة، فإن مهمة التعليم والتأدب لا بد أن يقوم عليها حاكم "المدينة الفاضلة"، أو من يستوزره عليها، أو من ينيبه عنه، لتصريف شؤونها ومراقبة أوضاعها وتقويمها، ذلك أن رئيس "المدينة الفاضلة" أو واليها هو صاحب النواميس، وواضع الأحكام ومشرع الأنظمة والقوانين، مستعيناً في ذلك بأولى العزم، أصحاب الفطر القوية، في الحصول على السعادة ليبني مدينته، وليرشد إليها من ليس له سبيل إلى تعلمها بنفسه.
إن رئيس "المدينة الفاضلة"، يا سيادة الرئيس، هو ذلك الزعيم الذي تجتمع فيه الخصال الطيبة وقوة الشخصية، وقوة البدن، وقوة العقل، وقوة النفس، وقوة الروح، وقوة الخلق، فيكون صادقاً لا كاذباً أو كذاباً، وعادلاً أو محباً للعدل لا ظالماً، شجاعاً جريئاً مقداماً، لا خائفاً خائر العزم جباناً، مترفعاً بنفسه الكبيرة عن الصغائر، ذلك أن مهمته – وهو رئيس "المدينة الفاضلة" وحامي حماها – مهمة خلقية وسياسة في آن معاً، وعلى حد سواء، الأمر الذي يلزمه أن يصبغ وزراءه ومساعديه ومستشاريه ومرؤوسيه من المسؤولين الذين ينفذون مراسيمه الرئاسية وأوامره السياسية أو قراراته الاقتصادية والاجتماعية بمهامه وصفاته الأخلاقية. فهم وإياه، إذن – وبوحي من هديه، والسير على خطاه، وشمولية رؤيته، وعمق رويته، وبالغ حنكته، وسعة الدربة لديه – ليسوا إلا الأنموذج الذي يقلده أهل المدينة، والمثل الأعلى الذي يعتقدون به ويترسمون خطاه.
أما "المدينة غير الفاضلة" فهي "المدينة الجاهلة" التي لا يعرف أهلها السعادة، حيث لا تخطر السعادة لهم على بال، ذلك أن أسمى غاية عندهم هي النجاة بأرواحهم وسلامة أبدانهم، ومراكمة أموالهم مع الاستمتاع بحواسهم التي من سماتها الخسة، والتعصب باسم الكرامة، والتعسف في استخدام السلطة لقهر الغير، وتركيز الحكم والصلاحيات، وتكديس الثروة، والحياة بالهوى دون وازع، ودون سطوة على النفس للكف عن هواها، أو نهيها عن المعصية أو الشطط، وإسلام قيادها إلى حواسها. المدينة غير الفاضلة أو مدينة الجهل التي يتربع الجهل فوق صدرها، إنما هي مدينة ذات درجات على مستوى الجهل والجهالة. أما أسوا درجة في "المدينة غير الفاضلة"، التي هي مدينة الجهل والجهالة، فهي تلك التي يدعي رئيسها أو واليها أو حاكمها أنه منزه عن الخطأ موحى إليه، وأنه لا يعمل بالشورى، ولا يجمع حوله إلا بطانة السوء، فيصرف أهل مدينته
عن صحيح العقيدة وصوابية التصرف، كما يصرفهم عن السعي إلى مسرات الروح ومسوغات العقل.
سيادة الرئيس: إذا أجزت لنفسك أن ترى أن "المدينة الفاضلة" ليس ممكناً إدراكها، على اعتبار أنها من صنع الخيال ومن قبيل التمني، فإنه لا ينبغي لك – بصفتك رئيساً حاكماً وزعيماً – أن ترى استحالة المحاولة للاقتراب منها. فإن تمكن الضعف منك واستبد بك فحال دون محاولتك التوجه للاقتراب نحو "المدينة الفاضلة"، فإنه لا ينبغي لأي أمر مهما عظم، أن يدفعك إلى تحفيز أهلك وبنيك على التوجه إلى "مدينة الهوان والفساد والمذلة" التي يتسابق الناس فيها على مراكمة القوة وجمع الأموال لتكديس الثروة، أو أن تجرف الناس جرفاً إلى إقامة " مدينة الضعف والاستسلام والانهزام التي تضيف إلى "مدينة الهوان والفساد والمذلة" تعاون الناس لبلوغ السعادة الحسية والخيالية، والنشوة التي تنشئها تخمة البطون ومتعة الأجساد واللهو والمجون، والتي يتبوأ فيها سدة الحكم والسلطة والقيادة والسطوة من استطاع تحقيق هذه الأهداف الدنيا .
إذاً، فلعله بات ممكناً، أو بات مطلباً، أن يكون توجه شعبنا الواقع تحت ظلم قياداته ومحتليه إما صوب مدينة "الجماعة" التي هي – كما يصفها الفارابي – " مدينة اجتماع الحرية"، أو صوب " المدينة الضرورية". فمدينة الجماعة أو مدينة اجتماع الحرية، هي المدينة التي يعيش الناس فيها سواسية وأحراراً، متساوين في ما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، والتي يرى أهلها أن الرجل العظيم فيها، هو الذي يمنح الناس الحرية، ويحمي المدينة وأهلها من غوائل الأعداء، ويمنع الناس من أن يقتتلوا، وإن اقتتلوا فإنه يحكم بينهم بالعدل. فمثل هذه المدينة تكون – بسبب تمتعها بحرية مشرعة أبوابها فيها – أكثر ملاءمة وسرعة لنمو العلم وسيادة القانون والفضيلة فيها، ذلك أنها لا تخلو من العظماء والمربين الفاضلين. أما "المدينة الضرورية"، فهي تلك التي يجتمع الناس فيها – بوحي من فطرتهم – على تأمين الحد الأدنى من ضرورات حياة مدنية عادية لا تزال فطر الناس فيها سليمة، وعلى استعداد لتنمية الفضائل وتطوير ملكات الخير. فهذه المدينة الضرورية إن لم يصبها الانحراف فتوافرت لها الأفكار الفاضلة والمربون الفاضلون، فإن تطويرها إلى "مدينة فاضلة" يصبح أمراً ممكناً، لا سيما أن الرئيس فيها هو ذلك الذي يتحلى بحسن التدبير، وحصافة التفكير، وجودة التصرف، فيدفع الناس إلى بذل الجهد المخلص لينالوا
من الأشياء الضرورية ما ينبغي لهم حفاظأ عليهم، أو هو الذي يبذل لهم هذه الأشياء الضرورية من تلقاء نفسه، طواعية واختياراً، حرصاً وحباً وانتماءً.
يرى الفارابي أن الحاكم أو الوالي أو الرئيس أو الزعيم إنما هو إنسان ذو ملكات إيجابية خاصة تجعله مؤهلاً للحكم والرئاسة والقيادة والسياسة، فهو كفي بفطرته، وتزداد دوما بفعل تربيته الفكرية كفايته، غير أن هذه الكفاية ليست – في أي حال – سبياً لاستقرار مدينته التي يترأسها، ذلك أن رغبة أهل المدينة في سيادته عليهم، وقيادته لهم، وتضامنهم معه، وإيمانهم به، ومشاركتهم له، هو شرط آخر ضروري ولازم.
سيادة الرئيس: إن الفضيلة لا يمكن لها لا يمكن لها أن تنسجم – في أي حال - مع تغلب الوالي أو الرئيس على الوطن وأهله قسراً وقهراً وتسلطاً، مهما كانت أسبابه أو و مؤهلاته أو مسوغاته، وممكنات القوة لديه.
سيادة الرئيس: بعد أن غزا الفساد تعليمنا الجامعي الذي خاطبناك أكثر من مرة في مفاسد أكابره - من رئاسة جامعة إلى رئاسة مجلس أمناء - دون أن تلقي لذلك بالاً حيث لم تحرك ساكناً، الأمر الذي ينذر – إن بقي هذا الحال على حاله – بأن يبتلى التعليم كله في بلادنا بآفة الفساد، ها هو قضاؤنا يغزوه الفساد الكبير حتى من رأسه، إذ أصدرتم مرسومكم الرئاسي القاضي بتشكيل أول محكمة دستورية فلسطينية قوامها قضاة ثبت فساد بعضهم فساداً يحول دون ركوبهم سدة قضاء أعلى محكمة جاء في المادة ( السابعة) من نظامها الأساسي ما يتعارض مع وجودهم تحت قبتها، ذلك أنهم – بما لهم من سجل مهين للعدالة – قد أثبتوا بما لا يدع للشك أدنى مجال في أنهم لا يعرفون العدل ولا يفهمون العدالة، وأنه ليس في مكنتهم أن يقيموا عدلاً، أو أن يحفظوا عدالة، فهذا الذي سطا على كتاب بأكمله لمؤلفين كبيرين واضعاً اسمه بدلاً منهما عليه، كيف له – وقد خان شرف العلم والأمانة وخالف العدل والعدالة – أن يحكم بالعدل؟!
أما آخر الكلام، فهل تعلم، يا سيادة الرئيس، أن الرجوع عن الخطأ خير ألف مرة من التمادي فيه، حيث إن مرسموك الرئاسي القاضي بتشكيل أول محكمة دستورية في فلسطين يشتمل على خطأ جسيم من الخير لك وللوطن كله، أن تعود عنه لصالح مرسوم آخر يفرض نفسه
عنواناً لمرحلة حقيقية جديدة، وإلا فإن الفساد في الأوطان ليس إلا من صنع قادتها وساستها، وهو ما لم يعد في الوقت متسع إلا أن تثبت الآن الآن عكسه!!!
بقلم/ د. أيوب عثمان