أليس الرجوع إلى العمار خير من التمادي في العوار والبوار؟!
في مقال نشرته منذ ثلاثة أيام، وتحديداً في 4/4/2016 تحت عنوان:"سؤال على هامش تشكيل أول محكمة دستورية في بلادنا: كيف لبعضهم أن يحكم بالعدل، يا سيادة الرئيس؟!"، عبرت عن اندهاشي واستنكاري، متسائلاً:"هل فكر سيادة الرئيس واستشار من الغيارى والأخيار كي يحسن الاختيار؟!"أضفت مجيباً:" بالتأكيد لم يفكر، ولم يستشر، حتى وإن استشار، فإنه بالقطع لم يحسن اختيار من يُستشار!!! عدت لأتساءل باندهاش واستنكار متلازمين لا ينفكان:"أيعقل أن يصل الإيغال في الفساد، يا سيادة الرئيس، حد اختيار قضاة مارسوا الفساد في أحط مستوياته وأبشع صوره وأرخص مشاهده؟! أيعقل أن يكون من قضاة المحكمة الدستورية في فلسطين الثائرة من سرقوا كتب غيرهم وسطوا على أبحاث من سواهم؟! كيف يمكن لفلسطين أن تستعاد، يا سيادة الرئيس، فيما نراك تُجلس على رقاب شعبنا فاسدين على أنهم قضاة وبالعدل يحكمون؟! ومن هم أولئك الذين تستشيرهم فيشيرون عليك بما يهلكك ويهلك الوطن ويهلكنا قبلك ومعك وبعدك؟! هل بلغ العقم في بلادنا الولادة إلى أن تختار للمحكمة الدستورية، يا سيادة الرئيس، قضاة يصلح بعضهم عناوين فساد وإفساد؟! هذه هي الطاقة الكبرى، يا سيادة الرئيس!
إذا كنا في مقال أمس الأول قد مَسَسنا الجانب القانوني في المرسوم الرئاسي مساً خفيفاً، فركزنا على التناقض والتضاد والتعاكس بين العدل والفساد، ذلك أن القضاء غايته العدل واجتثاث الفساد، فكيف يكون حال القضاء إذا كان فيه ما يشوبه من فساد بعض سدنته؟! وإذا كان هذا ما أتينا عليه في مقالنا السابق، فإننا سنأتي في هذا المقال على مدى القانونية والدستورية في هذه المحكمة الدستورية التي نرى أنه لا دستورية فيها.
بغية أن نعرف من نحن، ومن هم، وأين نحن، وأين هم، لعلنا نفكر قليلاً في مفارقة مفادها أن القانون عندنا إنما هو للرئيس وأزلامه مسود ومطية ليخدم، فيما القانون عندهم هو السيد الذي يقضي ويحكم، يسود فيقضي ولا يقضى عليه، يحكم ولا يحكم عليه، يقعد به ولا يقَعَّد.
أما هذه المحكمة الدستورية، فصحيح أنها ضرورية لاستكمال مكونات الدولة وركائزها ومؤسسات العدالة فيها، وصحيح أنها استحقاق دستوري وقانوني لإسناد الشرعية الدستورية والقانونية وحمايتها، غير أن هذه الضرورة - التي نشهد أنها ضرورة – لم يأت دورها بعد، ولم يَحِن موعد استحقاقها بدليل قوة ودقة نص المادة (السابعة) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006، وبدليل حتمية الالتزام بصريح منطوقها الذي جاء فيه بكل وضوح وصراحة ومباشرة أن: "يؤدي رئيس المحكمة (الدستورية) ونائبه وقضاتها أمام رئيس السلطة الوطنية قبل مباشرة أعمالهم، بحضور كل من رئيس المجلس
التشريعي ورئيس مجلس القضاء الأعلى، اليمين التالية:" أقسم بالله العظيم أن احترم الدستور والقانون وأن احكم بالعدل".
وهنا نتساءل:" هل المحكمة الدستورية منشئ للحياة الدستورية، أم مكمل لها، أم متوج نهائي لأركانها؟ فإذا كانت المحكمة الدستورية متوجاً للحياة الدستورية وليست مكملاً لها عندنا، فإن هذا يعني أن تشكيل هذه المحكمة لم يَحِن، بعدُ، موعده الذي لا يحين إلا بعد أن يستعيد سيادة الرئيس لبلادنا الحياة الدستورية الطبيعية (ولو نسبياً!) متمثلة في إجراء انتخابات عامة، رئاسية وتشريعية، ومتمثلة أيضاً في استعادة توحيد منظومة القضاء الفلسطيني المتشظي والمنقسم.
وزيادة على ما سبق، فإذا كان نص اليمين في المادة (السابعة) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006 يقول حرفياً:" أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور والقانون، وأن أحكم بالعدل"، فكيف لحالف اليمين أن يبر بيمينه ويرعاها، فيحترم الدستور والقانون في ذات الوقت الذي جاء فيه هو على جثة الدستور والقانون؟! وكيف له أن يحكم بالعدل في ذات الوقت الذي جاء فيه قاضياً يتناقض، في الأصل، وجوده مع العدل ويخالف أحكام العدالة؟!
إن هذه المحكمة الدستورية التي أصدر سيادة الرئيس مرسوماً بتشكيلها كأول محكمة دستورية في بلادنا، هي محكمة جاء وصفها في المرسوم أنها"دستورية"، غير أنها ليست كذلك أبداً، ذلك أن هذه المحكمة لا تستطيع أن تمارس رقابتها على دستورية أو انعدام دستورية القوانين والتشريعات وتفسير النصوص والفصل في تنازع الصلاحيات والاختصاصات، لا لشيء إلا لأن هذه المحكمة ذاتها قد جاء تشكيلها بمعزل عن القوانين والتشريعات التي من صلاحياتها الفصل في مدى دستوريتها وفي تنازع اختصاصاتها وفي تفسير نصوصها.
إن ما فعله سيادة الرئيس هو كذلك الذي جعل عربة تجر الحصان، فيما الأصل أنه هو (أي الرئيس) أول من ينبغي له أن يعرف أن هذه العربة التي تجر الحصان إنما ينبغي للحصان أن يجرها! إن الأصل في تتابع الأمور أن يفهم المسؤول أو القائد ماذا يأتي قبل ماذا، وماذا يأتي بعد ماذا! ومن قبيل "ماذا قبل وماذا بعد" في السياق الذي نحن الآن فيه، وهو المحكمة الدستورية الفلسطينية مثار الحديث، فإننا نتساءل وجوباً واستنكاراً:" أتكون الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل تشكيل المحكمة الدستورية أم بعد تشكيلها؟! إن خير جواب لهذا السؤال هو ذاته خير دليل على مكابرة من يقول بأن تشكيل المحكمة الدستورية هو استكمال للحياة الدستورية، هو سؤال آخر نصوغه على النحو الآتي:" إذا كانت المادة (السابعة) من قانون تشكيل المحكمة الدستورية رقم (3) لعام 2006 يقضي أيضاً بأن: يؤدي رئيس المحكمة ونائبه وقضاتها أمام رئيس السلطة الوطنية قبل مباشرة أعمالهم بحضور كل من رئيس المجلس التشريعي ورئيس مجلس القضاء الأعلى اليمين .........."،فهل لدينا مجلس تشريعي عامل وفاعل أم خامل جامد منقسم ومتشظي ومعطل؟! وهل لدينا رئيس للمجلس التشريعي؟! من هو؟! وأين هو؟! وهل تتوفر له مكنة حضور حلف اليمين؟! وإنْ من عائق يحول دون حضوره، أيحضر عنه نائبه الأول أو نائبه الثاني إن كان الحضور في مكنة الأول، وإن كان الثاني قد أجيز له الحضور؟! وهل من الجائز دستورياً وقانونياً أن يحضر حلف اليمين عن رئيس المجلس التشريعي نائبه الأول أو نائبه الثاني؟! وإضافة إلى كل ذلك، فهل لدينا مجلس تشريعي طبيعي كي يطلع بدوره في المصادقة على كل ما يصدر عن هذه المحكمة الدستورية من قرارات؟!
وبعد، فهل يصيخ سيادة الرئيس السمع هذه المرة، لا سيما وإن الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الإنسان، والتي أنشئت بقرار رئاسي – قد عبرت هي ومجموعة من المؤسسات الحقوقية عن اعتراضها على تشكيل أول محكمة دستورية على النحو الذي جاءت عليه، مطالبة الرئيس بأن يكون الإعلان عن تشكيل المحكمة الدستورية خطوة لاحقة تتوج إعادة الحياة الدستورية المتمثلة بإجراء الانتخابات العامة (الرئاسية والتشريعية) وإعادة توحيد القضاء الفلسطيني.
ما أشبه الليلة بالبارحة، حيث باطل الليلة وباطل البارحة أبوهما في هذا البطلان والباطل واحد، الأمر الذي يستحثني على أن أذّكر سيادة المستشار القانوني للرئيس/ حسن العوري بباطل الأمس وبطلانه، حيث زاره وحي سماوي مفاجئ ليكتشف بعد أكثر من عام ونصف العام أن المرسوم الرئاسي الصادر من فرنه ومن مطبخه في 1/6/2014 بتعيين السيد/ علي جميل مصطفى مهنا، رئيساً للمحكمة العليا، رئيساً لمجلس القضاء الأعلى، قد كان باطلاً، ما دعا محكمة العدل العليا إلى الاستجابة للطعن المقدم إليها في المرسوم الرئاسي، حيث أصدرت حكمها القطعي البات ببطلان المرسوم الرئاسي الطعين. أما اليوم، فماذا عسانا أن نسمع من المستشار القانوني للرئيس/ حسن العوري؟! أيرى العوري المرسوم الرئاسي القاضي بتشكيل المحكمة الدستورية اليوم، كما رآه وقت صدوره، أو يا تُرى كما سيراه غداً أو بعد غد، طبقا لما قد يستجد؟!
أما آخر الكلام، فيحسن بنا أن نذكر سيادة الرئيس التي تتزاحم عليه المهمات بالفاروق عمر الذي ذهب إلى أن الرجوع عن الخطأ خير ألف مرة من التمادي فيه، وذلك في سياق رسالته الشهيرة عن القضاء التي كان قد بعث بها إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه أمر القضاء فقال:" ولا يمنعنك قضاء قضيته اليوم فراجعت فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق ، لأن الحق قديم لا يبطله شيء ، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل ، والمسلمون عدول بعضهم على بعض في الشهادة إلا مجلوداً في حدٍ أو مجرباً عليه شهادة زور ، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة........ " .
وباختصار شديد، فإن الرجوع إلى العمار، يا سيادة الرئيس، يجنبنا العوار ويبعدنا عن البوار"، فهل تفعل؟! وفقك الباري.
بقلم الدكتور/ أيوب عثمان
كاتب وأكاديمي فلسطيني
جامعة الأزهر بغزة