تثبت الأيام بجدارة أنه لا وصف يعبر بدقة عن الصراع الدائر بين حركتي فتح وحماس إلا "صراع ديكة" لا ينتهي إلا بسقوط، ولا تعبير أكثر دقة للحوار بين القطبين إلا "حوار طرشان" لا لزوم له.
أعترف بأن ما دفعني إلى الخوض في هذا الموضوع أنني خلال الأسبوعين الماضيين طالعت عدداً غير قليل من التقارير والتحليلات التي اعتنت بتشريح هذه العلاقة المتوترة ومحاولة فهم جوانبها المختلفة وسبل الخروج منها بالتزامن مع جلسات حوار الدوحة الأخيرة، وكانت قضيتا الاختلاف الأيدلوجي واختلاف البرامج على رأس العناوين التي حظيت باهتمام المحللين، واتفقت جميعها على أن الحوار السبيل للخروج من الانقسام.
لكن هذا التفسير – رغم وجاهته– لا يفسر استمرار العلاقة المتوترة وتعثر الحوار في ظل تراجع الفروق الأيديولوجية والفكرية بين الحركتين إلى الحد الأدنى لدرجة أن التمييز بينهما لم يعد بالأمر اليسير. وقد لاحظت أن أكثر التحليلات حين ركزت على هذين العاملين لم تنتبه إلى الدور الذي أسهم به تغيب الديمقراطية في إذكاء الصراع وتوفير التربة المواتية له.
تكشف الخبرة التاريخية للعلاقات بين القطبين في مختلف مراحلها عن حقيقتين:
الأولى أن الحركتين تؤمنان بضرورة قيادة الفلسطينيين بشكل منفرد، أما الثانية فهي غياب الثقة بين الطرفين، خصوصاً وأن تجارب الحوارات والاتفاقات السابقة لا تشكل دافعاً لتعزيز هذه الثقة.
نستطيع القول بقليل من تفصيل أن الأزمة الحالية في العلاقة ليست وليدة اللحظة، بل هي امتداد لتاريخ طويل اتسم بالمنافسة القوية والتباين الشديد والاستقطاب الحاد على كل الصُعُد وفي مختلف المراحل ولسبب واحد هو أن كل طرف يعتبر نفسه الوحيد المؤتمن والمؤهل لقيادة الشعب الفلسطيني بينما الأسباب الأخرى شكلية تظهر وسرعان ما تتراجع لتبرز أخرى من جديد، فمن أحقية تمثيل الشعب الفلسطيني واختلاف البرنامج السياسي في المرحلة الأولى، إلى جدلِ حول الحدود النهائية للدولة وحدود العمل المسلح في مرحلة ثانية، ثم في مرحلة تالية صراع صلاحيات داخل سلطة تحت احتلال إلى جانب قضية الاعتراف بإسرائيل والاتفاقيات السابقة وصولاً إلى مرحلة الصراع من أجل الحصص والامتيازات بعدما تقاربت البرامج والأهداف بفضل بريق السلطة وامتيازات الحكم، وخَفت معها وهج العمل المسلح الذي أصبح لا يستحضر إلا في المناسبات لزوم المزايدات.
الملاحظ على امتداد هذه المراحل أنه لم تنشأ علاقة طبيعية بينهما، وتراكمت بعبور الزمن سلبيات كثيرة أخذ بعضها طابع الصدام تارة، والحوار تارة أخرى، غير أن الحوار في كل مراحله لم يؤد إلى علاقة قائمة على التعاون أو الأرضية السياسية المشتركة، بل إنه أدى إلى انعدام التنسيق حتى بصدد بعض القضايا المصيرية والحياتية، والتي يفترض أنها خارج مجال المناورة والصراع الحزبي.
ومما لا شك فيه أن التنافس المشروع بين الأحزاب هو قاعدة العمل في كل ديمقراطية، ومع غياب أي مفهوم للتآلف والتعاون أو التحالف لتحقيق أهداف ومصالح وبرامج مشتركة، فإن التنافس في هذه الحالة يمكن أن يتحول إلى حرب يخوضها الجميع ضد الجميع، وكل حزب يتصور فيها أنه الوحيد الوطني والوحيد الذي يستحق البقاء.
الواضح أيضاً أن ضعف الديمقراطية الداخلية في الحركتين أعاق إمكانية امتدادها لتصبح سلوكاً مشتركاً بينهما، فمن غير المتصور أن يكون الحزب ديمقراطياً في تعامله مع الآخرين، ما لم يكُ يمارس الديمقراطية في داخله، فكيف لفاقد الشيء أن يعطيه!.
لهذا كان من الطبيعي أن ينعكس الغياب شبه التام للممارسات الديمقراطية في الحركتين على شكل العلاقة بينهما، والتي اتسمت بمحاولات الإقصاء أو الاحتواء بالترهيب والتغييب والإنكار ومؤخراً بالحوار لكسب الوقت والالتفاف على متغيرات آنية لا أكثر!.
ففي الحالتين ينظر كل تنظيم لنفسه نظرة فوقية اصطفائية فهو يمثل آمال وطموحات ومصالح الجماهير وغيره نكرة، وهو القابض على الثوابت وغيره مفرط، هو الوحيد المؤتمن وغيره خائن، كيف لمن يُخون الآخر عقب فشل كل جولة حوار أن يحاوره مرة ثانية وكيف سيبرر اتفاقه معه!.
ولذلك فإن هذه المواقف لا تفضي إلى التعاون والتوافق وبالتالي التداول السلمي على السلطة، إذ أنه يصبح بلا معنى في ظل وجود فكرة الأجدر بالحكم والأحق به وهو ما يفسر-ربما- الصراع الحالي وتعثر الحوار المستمر.
هنا تحديدا يصدق القول: هذان خطان متوازيان لن يلتقيا أبداً، ليس لاختلاف أيدلوجي واختلاف برنامج، فهما ليسا سوى الشكل الظاهري للمشكلة، إنما هناك في العمق ما هو أهم وأكثر تأثيراً... لا داعي للاستغراب... فالصراع "صراع ديكة" لا ينتهي إلا بضربة قاضية، والحوار "حوار طرشان" شعاره دعهم يتحدثون، فالأرض لي وموقفي ثابت لحين اقتناص الضربة القاضية!.
انتظروها... أقصد القاضية.
إيهاب يوسف أبو منديل