لم تصحُ الجماهير العربية في إسرائيل وقياداتها من تلك الصفعة المدويّة التي تلقتها، في الأسبوع المنصرم، من قبضايات الكنيست "الداشعين"، حين مرّرت الأكثرية اليمينية العنصرية، بالقراءة الأولى، قانونًا يجيز لأعضاء كنيست منتخبين شطب عضوية نائب آخر، حتى لو كان منتخبًا بشكل دستوري سليم من قبل مواطنين ناخبين مارسوا حقّهم في العملية الانتخابية العامة، وذلك في خطوة تفضي، في الواقع، إلى إفراغ العملية الانتخابية السياسية من مضمونها وتمحو نتائجها.
وحين كان البعض يسعى إلى ترتيب أفكاره ازاء ما ينهال على مجتمعنا العربي من ضربات، ويحاول وضع مخططات لإنشاء سدود واقية من شأنها أن توقف ما قد يسببه ذلك الطوفان العنصري الجارف من دمار وعبث، فاجأت وزيرة القضاء أبناء جلدتها، أحفاد الأنبياء والقضاة، بهجومها الكاسح الذي استهدف، هذه المرّة، مكانة المحكمة العليا الإسرائيلية وقضاتها، على الرغم من كون هذه المحكمة، في الحقيقة، هي آخر معاقل نظام الحكم السابق والهاوي، وأهم مؤسسة فيه جُنّدت، لسنين طويلة، من قبل ساسة إسرائيل وبُناتها الأوائل، لتكون الحجة والتميمة والشفيعة لهم أمام العالم.
فمحافل قضائية عالمية واسعة وهيئات جامعات عريقة، وفقهاء قانون مفلقون، من دول كثيرة في العالم، آمنوا واقتنعوا بأن المحكمة الإسرائيلية العليا هي صرح عصري مهم من صروح الفكر الحر، ومفاعل بارز ينتج العدل في شرق يقتل عنادله ويبقر أحلام عذاراه، وديوان للمظالم ينصف من يقصده بتبنيه القيم الإنسانية المثلى وقواعد القانون الدولية العصرية العادلة.
نعم هي واحدة من تجاعيد العبث الذي مارسه العالم المابعد الحرب الكبرى، وأجاده قباطنته، لعقود من الزمن، في حين لم تنفع كل نداءاتنا، نحن الفلسطينيين، ولم تسعفنا جراحنا النازفة، ولا ما تكبدناه، من خلال إصرارنا على رفض الانتكاب، وكضحايا لسياسات حكومات عنصرية قمعية قهرية متعاقبة، دافعت عنها تلك المحكمة بمنهجية ذكية وبتبريرية عنصرية مغلّفة، فتنكرت لحقوقنا الأساسية وعاملتنا كجناة، رغم أننا نحن الضحايا والأقوياء، فصرنا بأحكامها غرباء وضعفاء. كنا أصحاب البلاد وحماة الديار وعشاق الأرض، وهي سلبتنا بـ"عدلها" المهزوم والمأزوم، البيادر والمحاجر والحقول. كانت محكمة إسرائيل العليا بممارساتها، إلى حد بعيد وفي أحايين كثيرة، درّة في تاج نظام القمع العنصري، ومبيّضة لسواد لياليه وأفعاله، ومع ذلك لم يتخيل خدمة القانون، وهم في أبراجهم الفولاذية أن النزاهة تولد عارية، لا عرق لها ولا لون، ولم يتوقع مدّعو الحرية الهشة أن الإنصاف لن يقوم على سيقان من البامبو، ولم يقتنع صائدو الأحلام أن العدل لا يتوالد في خوذات الجنود ولن يسكب من فوهات البنادق الجوعى، وهي تصطاد أنات الدم النازف على أرصفة العهر والعجز، ولذلك تفاجأوا حين واجهتهم سيدة القضاء الأسير ووزيرته بأكثر من توبيخ فاضح وبأقل من تهديد ناطح، لكن بما يكفي كي يجعلهم يخافون، ويكفي خوف القضاة من الغزاة، فهي من مدرسة تاريخها علّم الإنسان: أن لا حرية مع الخوف ولا عدل والسيف مغمود في سرتك، فرسالة الوزيرة ولّادة للقلق وللخوف وسهمها طيّرته بأوضح من خطبة الحجاج، حين لعلع لسان حالها وقال: اسمعوا يا قضاة، ويا بني إسرائيل، ويا من تحسبون أنفسكم أرباب الحكمة والعفة والطهارة، تفكّروا، تمهلوا واحذروا، أفلم تقضوا في سننكم المذهبة أن للبلاد سيفًا يحميها، وللأرض شعبًا يخلّصها من غبار السرو وينجيها من ريق الكروم ويحميها من بكاء الصبر والتين؟ أولم تعلنوا في صحائفكم المفضضة أن الطير في صهيون هدهد سليماني فصيح وغراب عاص يملك الفضاء والذكاء والبقاء؟ أولم تؤمنوا أن أيوبكم مات ولم يورث دمعه لأحد، فكيف نسيتم أن لا دمع في عيونكم كي تسكبوه ولا ندم، فأبوكم، الفيلسوف، علمنا كما علمكم، أن باطل الأباطيل باطل، وكل شيء كان باطلًا وما سيكون باطلا.
اسمعوا يا أحفاد قضاة يهودا وملوك السامرة هتاف السماء وعويل الهياكل وعودوا إلى مهاجعكم واكتبوا بخط الأنبياء، فلا حاجة كي نفهم، ولا أن يفهمكم أحد، وأوتروا أقواس حكمتكم البالية وأطلقوها هباءً في الوديان، ولا تنتظروا ضحكات الملائكة ولا عودة تلك الناقة، فمن سبقوكم ما زالوا يفتشون عمن عقرها وعن نحيب القمر؛ يا قضاة من غار مجفف، كان الناس في زمانكم ورقًا ولا شوك فيهم ولا وخز، أما اليوم، في هذا الزمن الأبلق، فكل الناس شوك بلا ورق، فخذوا الحكمة من قايين: ومن لا يصِر شوكة سيبقى لقمة في حلق العدم.
إنني هنا أمامكم لأقول لكم وللمرة الأخيرة: تاريخ استهلاككم قد نفد.. فسيروا على دروب الزريبة والأرض الحبيبة والزبيبة.. كي تسلموا .. والبقية ستأتي. احتجاجات بعض النخبويين الإسرائيليين بدأت تتهافت من على المنابر وفي عدة وسائل إعلام. من بينهم برزت مواقف بعض القضاة المتقاعدين وآخرين على رأس عملهم، وقد نجد ما قاله القاضي يتسحاك زمير، وهو من الشخصيات القضائية البارزة في تاريخها، ما يجسّم وسع الهاوية التي نقف عند حدها، فهو مستفز من هجوم الوزيرة، صرح بأنه لم يشهد إطلاقًا مثل هذه الهجمات النابية على المحكمة العليا في الماضي، وأضاف أنه إذا ما تم ما تريده الوزيرة فعندها سيصير نظام الحكم في الدولة ديكتاتوريًا.
لن تنتهي قصتنا بما قالته وزيرة القضاء الإسرائيلية بحق المحكمة العليا الإسرائيلية، ولا عند من احتج وشجب واستنفر، فبالتوازي مع طلقات حنجرتها أتحفتنا الأخبار عن انهيار سدّ آخر من سدود حيّزنا العام، وذلك بعد أن عرفنا عن قيام العديد من أقسام الولادة في مستشفيات البلاد بفصل النساء اليهوديات عن العربيات، على الرغم من أن وزارة الصحة الاسرائيلية تحظر ذلك، وعلمنا أن من بين هذه المستشفيات التي تقوم بعملية الفصل العرقي هي: هداسا، شعاري تسيدك في القدس، ايخيلوف في تل أبيب ومئير في كفارسابا. كذلك سمعنا كيف تشاوف عضو الكنيست عن "البيت اليهودي" بتسلئيل سمورتريتش، حين أعلن جهارةً عن رغبة زوجته، غير العنصرية، أن لا تكون مع والدة عربية بعد الولادة لأنها تبغي الراحة ولا تحتمل حفلات العرب.
للقصة توابع ستلحقنا، فنحن كأننا في كابوس. موجة عاتية تغرفنا من وسط لجة صاخبة وترتفع بنا حتى تخترق رؤوسنا قطعان من غيم أسود متسارع ومتناثر، وتهبط فينا بسرعة البرق فنرتطم بصخرة شرسة، ندوخ منها ولا نموت. وما أن نستجمع بقايا نفس نغرف ثانية على صدر موجة وحشية تحملنا وتندفع بنا صوب السماء، فتختفي ونبقى في الفضاء مدلين لا نعرف متى ستشج رؤوسنا.
إنه زمن الشوك.. وقد قلنا وحثثنا: يجب الإعلان عن حالة من الطوارئ وعن ضرورة تأسيس مجلس إنقاذ فوري. لقد وجهت صرختي، في المقال السابق إلى رئيسي المتابعة والمشتركة، ولا أعرف كيف كان صداها لديهما، ولكنني أرى أن الفكرة ما زالت ملقاة على رصيف الفكر العام، وقد يتناولها من يشعرون، مثل كثيرين في هذه البلاد، أننا أمام سبع عجاف وأن الوقت وقت الحصاد عسانا نملأ أهراءنا بالحنطة والحكمة والأمل.
لقد سمعنا خطبة القضاء فهل ستنتظرون حتى تسمعوا خطاب القدر؟
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس