من أجل فهم أقرب لطبيعة التوجهات التركية

بقلم: نزار نبيل الحرباوي

خطت تركيا مجموعة من الخطوات خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية الحاكم في بناء قدراتها الذاتية في المجال السياسي والاقتصادي ، واستطاعت خلال عقد ونصف من الزمان أن تثبت مكانتها العالمية كلاعب رئيس في عدد من الملفات الإقليمية والدولية ، وكان لها حضورها الفاعل في الملفات الرئيسة للصراعات الحادة التي شهدتها سوريا والعراق وليبيا وفلسطين واليمن واذربيجان وآراكان ونحوها .

إن تركيا التي تتحرك من خلال عدة أذرع اخطبوطية في العالم ، لتحاول من خلال جهودها ومساعيها تحقيق عدة أهداف رئيسة رأت أنقرة أنها تمثل هويتها العالمية المنشودة ، وهي أهداف تصنع لأنقرة مكانة مرموقة في مصاف الدول الفاعلة على الساحة بعيدا عن التصنيفات المعتمدة في مجلس الأمن والدول العظمى .

تاريخ تركيا الممتد إلى ما قبل العهد العثماني ، وما ورثته من إرث ديني وتاريخي وثقافي من الحقبة العثمانية ، وما تم تطويره بعد ذلك من مجالات الحكم والإدارة المؤسسية والعلاقات الدولية وخطوط التشبيك الفاعل في مجالات الحياة المختلفة مع قارات العالم الخمس ، شكل مخزونات جيدا لتركيا تستطيع من خلاله الاتكاء على ماضيها كإرث إيجابي ، وعلى واقعها كأنموذج حضاري ناجح ، وعلى مستقبلها الذي تحاول أن تشقه من بين ضباب الواقع الذي يحاول منع تركيا من كشف مساراتها ، فيضربها تارة بالقلاقل السياسية وتارة بالإرهاب ، في محاولة لثني أنقرة عن توجهاتها وكبح جماح نموها المتصاعد .

وما بين تآمر الدول الغربية والحاقدة على تركيا ، وبين رؤية تركيا لذاتها ولمكانتها الإقليمية والدولية ، تتضح ملة من لأمور يمكن اعتبارها مرتكزات في السياسة الخارجية التركية ، ودعائنا لتعزيز حضورها الدولي الفاعل ،ولعل من أبرزها : الوجه الإنساني المشرق.

الدور الإنساني والإغاثي الذي تقوم به تركيا من خلال عدد كبير من مؤسساتها الحكومية والأهلية المدنية ، دور كبير ومشهود ومؤثر في أكثر من ساحة عالمية ، فدور الهلال الأحمر التركي في الصومال والسودان وأركان وسوريا لا تخطئه العين ، ودور الهيئة التركية للتعاون والتنمية المعروفة باسم تيكا دور مركزي في دعم مئات المشروعات الإنسانية والتنموية في العالم العربي والدول الفقيرة ، ومؤسسات الدعم الأغاني والعون والغوث الإنساني مثل إي ها ها التي تنشط في أكثر من 160 دولة تمثل صورة مشرقة من هذا العطاء العابر للحدود ،ويطال الأيتام والفقراء والمرضى والمحتاجين في كل المجالات .

الحضور التأهيلي والتكويني الذي ترعاه تركيا  من خلال آلاف المؤتمرات والندوات والفعاليات الثقافية والفكرية والمعرفية والتشبيكية في سائر الجغرافيا التركية ، والذي يتوزع على واحد وثمانين ولاية تركية ، وتسهم فيه البلديات والجامعات ووزارات الحكومة والمؤسسات الأهلية والأوقاف الناشطة يمثل جزءا من الهوية التركية المستقبلية ، فتركيا تسعى جاهدة خلال العقد الأخير لبناء شبكات قيمية ومفاهيمبة واضحة وجامعة ، تمثل مرتكزات للعمل السياسي والفكري والثقافي والإنساني العام .

النمو الاقتصادي لتركيا يمثل أيضا بعض الصورة ، وأن كان البعض يركز عليه بصورة أكبر من جمع الفعلي ،ولكن حجم النمو الاقتصادي اللافت في تركيا يمثل رافعة من روائع العمل والاستقرار السياسي الداخلي والخارجي فيها ، فتركيا التي  تضم عشرات مجاميع رجال الأعمال الناشطين ، استطاعت بناء مقومات اقتصادها الذاتي ، وباتت تصنع غذاءها ودواءها وسلاحها بنفسها واستغنت عن الخارج في كثير من المجالات ، وهذا ما نعني به الاقتصاد الموجه لتعزيز الأمن القومي الذاتي .

وبرغم النهضة الاقتصادية التي نعيشها تركيا ، إلا أن صناع القرار فيها ليسوا راضين عن مستويات هذا الاقتصاد الصاعد ، فهم يريدون للاقتصاد التركي ان يجتاح الأسواق العالمية في أوروبا وأمريكا وروسيا وآسيا بصورة ثابتة من خلال سلع استراتيجية وأسواق استراتيجية تنافس الآخرين وتقدم الجودة والسعر المنافس ، لتصبح تركيا عنوانا للاقتصاد الحر المتحرر من قيود الإقليم وشروط المجاميع المالية العالمية الظالمة .

أما في الجانب السياسي ، فقد اتضح نهج الحكومات التركية المتعاقبة في ظل حزب العدالة والتنمية على الفصل بين المسار السياسي الداخلي والخارجي حي بصورة واضحة ، بحيث يعيش الإنسان التركي في بيئة اقتصادية سياسية معرفية ترفيهية، لا تقصيه تماما عن الشأن السياسي العالمي العام ، ولكنها تصوغ فكره باتجاه الاهتمام بقضاياه الذاتية أكثر من غيرها ، مع إتاحة المجال واسعا أمام وزارات الدولة والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني لتقديم كل ما يحتاجه اامواطنزلتنمية ذاته فكريا وثقافيا واقتصاديا وتنمويا تحت الف عنوان وباب من أبواب النشاطات والفعاليات التي تصوغ للمشهد السياسي العام في الداخل التركي .

السياسة الخارجية التركية لها باب آخر وميدان بعيد كل البعد عن هموم المواطن البسيط ، بل وحتى عن السياسي التركي البعيد عن دوائر صناعة القرار .

فصناع السياسة الخارجية التركية هم نخبة من الساسة والمستشارين والاقتصاديين الذين تلقوا تعليمهم في داخل تركيا وخارجها ، وخاضوا في غمار التجارب السياسية كسفراء ومسئولين حكوميين ، هؤلاء يشكلون المطبخ السياسي الفعلي في تركيا ، ومع أن صناع القرار السياسي في تركيا ليسوا كثرا ، ويمكن القول أنهم محصورون في الصف القيادي الأول لرئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ومستشاريه ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو ومستشاريه ، والذين هم في الوقت عينه الصف القيادي في حزب العدالة والتنمية الحاكم ، إلا أن إدارتهم لدفة الأمور في توجهات تركيا في السياسة الخارجية قد اتسمت بالتكامل والتدرج والمرحلية الهادفة .

كثرة الملفات المتفجرة في المحيط التركي ، بدءا بسوريا والعراق والأزمة مع اليونان والأزمات في الجمهوريات التركية ، ناهيك عن ضرورات التدخل التركي في أزمات أبعد منها جغرافيا ، جعلت من تركيا دولة تعيش في حقل من الألغام، وجعلها مجبرة على مواجهة أطماع الغرب في التراب التركي ، وأطماع جهات داخلية وخارجية كل له توجهاته وميوله وداعميه ، وهذا ما أبرز بصورة كبيرة دور تركيا وحضورها على المستوى العالمي في السنوات الأخيرة .

إن بناء تركيا لشبكات التحالفات الدولية مع الدول العربية وأوروبا والعديد من الجمهوريات والدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية يساعد على بلورة الصورة الكاملة لتركيا المستقبل ، تركيا التي تربطها بكل من إيران وإسرائيل وأمريكا والعالم العربي وأوروبا والحركات الإسلامية علاقات واسعة ومتغيرة المستويات ، ولكنها بمجملها تمثل دعامة لهذه الدولة التي هي بالأساس عضو في حلف الناتو ، ولديها مكتسبات في الحضور العسكري بذاتها وبتحالفاتها .

إلى أين تتجه تركيا إذا بعد سلسلة الخطوات التي اعتمدتها خلال العقدين الأخيرين في بناء ذاتها وصناعة نموذجنا الذاتي ?

تركيا الحديثة استطاعت بفضل مهارات التواصل الإيجابية التي ظهرت لديها مؤخرا من خلال الساسة الخبراء ومهندسي السياسة الخارجية فيها أن تتجاوز عدة أزمات متعاقبة فرضت عليها ، أزمات كان بإمكانها أن تعصف بالواقع التركي من جذوره لو تم التعامل معها بصورة خاطئة ، فما بين أزمات الصراعات الحزبية الداخلية ، ومحاولات زعزعة الاستقرار المستمرة من جانب بعض التيارات المعارضة بالتظاهر حينا وبالتفجيرات حينا آخر ، أغلقت تركيا الباب في ذهن المواطن التركي على موضوعات عدة ، من أهمها ، ملفات الانقلابات العسكرية ، والقبول بالإرهاب ، والخضوع للإملاءات الأجنبية الضاغطة ، والاعتماد على الدعم الغربي والفكر الغربي ، لتواجد مكان ذلك عزة الإنسان التركي الذي يفخر بأرضه ووطنه واقتصاده وحكومته.

وإزاء فشل الحكومة التركية أحيانا في التعامل مع بعض الملفات السياسية الخارجية ، كالملف الليبي ، وتأجيل البت في الملف السوري ، واللعب الهادئ في الملف العراقي ، والدخول على استحياء في الملفات الأفريقية ، باتت الحكومة التركية الآلية برئاسة البروفيسور داود اوغلو اليوم مسؤولة عن بناء سياسة تركية خارجية أكثر نضجا وأكثر إنتاجية في الحياة السياسية المتقلبة ، لا سيما مع وصول اللاعبين الكبار إلى المنطقة ، واكتظاظ البحر الأبيض والأحمر والخليج العربي بحاملات الطائرات والبوارج من كل شكل واسم ولون .

لا شك هنا أن العبء كبير ، وهو عبء موزع على أكتاف صناع القرار ، بيحكوا مكتسبات تركيا التي تم إنجازها ، وليصنعوا لها مكانة تستحقها في المشرق الذي يعاد تصنيعه وترسيم حدوده اليوم من جديد ، والدور الأبرز هنا لتركيا الجديدة ، أن تبقى واقفة منتصبة في وجه الأزمات المفتعلة أتى عصفت وستعصف بها حتى استقرار شكل التقسيمات الجديدة للمنطقة المتفجرة ، فإما أن تحمي قرارها وذاتها وسيادتها ، أو ستمحى من خارطة العالم كدولة ذات هيبة وقرار وحضور وأثر .

--

د. نزار نبيل الحرباوي
مستشار إعلامي وإداري وأكاديمي