منطق السياسة وسياسة اللامنطق

بقلم: فايز رشيد

لو أن رائد المنطق أرسطو عاش في مرحلتنا الراهنة، لأثار استغرابه في زمننا، لامنطقية السياسات العربية، فلا يصعب على المراقب راهنا، الحضور المكثف للسياسات الرائجة تحت مسمى "الواقعية السياسية"، والذي يمكن أن تندرج تحته الاخطاء والخطايا.
التعبير ونظرا لترداده كثيرا على المسامع، أصبح متماهيا كحصيلة معرفية ابستمولوجية مع القبول السيكولوجي له، قبل الشروع في تطبيقه واقعا تجاه حدث سياسي أو ظاهرة سياسية ما، أيا كانت طبيعة القرار السياسي المتخذ، وفي أي مصلحة يصب، حيث أصبح التعبير أمرا واقعا مقبولا كمفهوم ومسلك أيضا. أصبحنا نعيش كلمة نرددها من دون تمحيص في أبعادها، بل نستعملها بشكل روتيني، فمثلا "شريعة الغاب" هي السائدة راهنا، بكل ما يعنيه ذلك تعبيريا من اختصار لجهود مضنية، أصبحت تتبلور في البحث عن "الحلول الأسهل" لمواجهة التحديات، وإن تنافت مع القيم الأخلاقية المجردة والأخرى المطلقة، فليس صحيحا أن الأخيرة تتنافى مع الثقافة السياسية، مثلما يقولون بحيث أصبحت تعبيرا عن مصالح الفئات الاقتصادية ـ الاجتماعية، التي لها الغلبة في المجتمعات، بعيدا عن قيم العدالة، المساواة الإخاء والتعاون، في شوط يزداد ابتعادا عن القيم الجمعية التي تهدف إلى بناء الذات الإنسانية، المنسجمة مع مواجهة تحديات العصر على كافة الأصعدة، وفي ابتعاد واضح أيضا عن المطلق "كمثل" معرفي أعلى يحدد في المجال الأبرز، التماهي في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. هذا "المطلق" هو في حقيقته بمثابة دساتير/قوانين مفترضة في الشرائع الاجتماعية والقانونية المُعاشة. كل الذي سبق يعني اندثار المحاولة لصالح سياسة "الواقعية السياسية"، وبأن "الســـياسة هي فن الممكن"، من خلال "المسك من اليد الموجعة"، بما قد يؤدي بالحتم إلى عملية الانحدار المتدرج هبوطا، وصولا إلى السقوط السياسي، بكل تداعياته، اجتماعيا، معرفيا، اقتصاديا، عسكريا وثقافيا.
بتنا في زمن يسعى الحاكمون فيه إلى جمع أكبر عدد من المؤيدين المتعاطفين معهم. بالطبع، أصبح المتعاطفون محكومين بحالة شعورية مزاجية مصلحية بالدرجة الأولى، بعيدا عن القناعات الفكرية بصحة الخطوات السياسية المُنتهجة، وإن وجدت المعتقدات الفكرية لتأييد الخطوات السياسية، فإنما تنبع من مفاهيم القبيلة، العشيرة، المذهب، الطائفة والدين، على قاعدة "أنصر أخاك ظالما أو مظلوما" مع الأخذ بنصرة الأخ الظالم وتهيئة استمراريته في ممارسة الظلم، من دون إيضاح جوهر ظلمه، وحتى محاولة ردعه عنه. حتى اللحظة، فإن تعريفا محددا للمنطق السياسي، لم تجر صياغته، انطلاقا من الزوايا العديدة التي يتم النظر من خلالها إليه، وانطلاقا من رؤية دوره: إن بالمشاركة في عملية التغيير السياسي او في سياسة التغيير المجتمعي، فلطالما تحدث الفلاسفة والمفكرون عن تعريفات وأدوار شتى لمن يحمل لواء التغيير السياسي نحو الأفضل. ولعل من أقرب التعريفات إلى الواقع، ما ذكره غرامشي في تعريفه أيضا لمعنى "المثقف السياسي"، منطلقا مما هو خاص بنمط الإنتاج في الوجود الاجتماعي… وإذ ذاك فإن عملية التغيير تنتقل من عالم الأفكار واهتمامات ذوي الاختصاص إلى عالم الصراع الاجتماعي، فهو الذي يعيد صياغة المنطق السياسي، الذي يجعل من الممارسة لحظة داخلية في مجمل عملية التغيير، وهكذا دواليك. إن إحدى الحلقات المركزية في دور المنطق السياسي هي نقد الثقافة السياسية السلبية، التي تحاول التسيد كظاهرة ذات تأثير سياسي، عميق رغم لا منطقيتها، بغية تخليصها من الانحرافات التي تمنعها من تحقيق قيمها على أرض الواقع.. كذلك فإن دور السياسة يكمن في تطوير العوامل الإيجابية في الثقافة السياسية، من اجل العمل على امتدادها افقياً في المجتمع، ومنهجتها في مؤسسات من أجل تحويلها إلى ممارسة عملية واقعية معاشة.
ولو فصّلنا ما سبق على أرض الواقع، نرى انتشارا متسارعا للسياسات اللامنطقية، في محاولة تحويل وتحوير اتجاه المعركة السياسية الرئيس، إلى اتجاه نقيض تحت دعاوى كثيرة: اللاجدوى، التعامل مع الواقع.. وغير ذلك من الشعارات، وللأسف تجد بين السياسيين العرب، وتحت يافطة تلك الشعارات، من يروجون لمثل هذه السياسات اللامنطقية المتبعة. أيضا، فإن مقولات مثل: اللاجدوى من المقاومة، عبثية المقاومة، اللايقين، وغيرها من المقولات كانت قد أخذت تنتشر منذ سنوات، والذي حد من اندفاعة انتشارها في قطاعات عريضة في الواقع العربي، تجارب صمود المقاومات الفلسطينية والعربية في وجه الاعتداءات الصهيونية والغربية على أكثر من بلد عربي في العقود الأخيرة، كذلك ما تحققه كل من المقاومات من إنجازات مهمة على أرض الواقع، نقول ذلك لأن المدخل السياسي لنظرية المؤامرة يجري إما مباشرة أو بطريق غير مباشر، ومن ضمنه حتى الثقافي فقد جرى استعماله من أجل تنفيذ المؤامرات على الشعوب، وكان ذلك منذ أربعينيات القرن العشرين… وما زال يستعمل حتى اللحظة: سواء من خلال ما يقدم من دعم غربي لكم هائل من المنظمات غير الحكومية، التي اخذت تنتشر مثل نبات الفطر في العالم العربي، تحت دعاوى وشعارات كثيرة، تبدو تقدمية في مظهرها، أو من خلال أشكال أخرى كثيرة وللأسف، لكنها تحمل في النهاية أهدافا سياسية ليست خفية على كل من يفكر في أبعادها، أبعاد تهدف في جوهرها إلى سحق روح المقاومة والمجابهة وانتزاعهما من العقلية العربية. نعم، تجد من بين السياسيين العرب من أصبحوا يدافعون عن مثل هذه الظواهر، وتجد من بينهم من اصبحوا يطلقون على المقاومة المشروعة للشعوب… "ارهاباً".
ولأن السياسي جزء من مجتمعه، والمجتمع يعيش أجواء الدولة التسلطية والديكتاتورية الرسمية، ومع بروز الدولة العربية القطرية الحديثة، فإن البنية الفوقية لها، جعلت من نفسها بديلاً للفرد والمجتمع، وتحاول أن تنوب عنه في كل المسائل، مما أضعف روح المبادرة لدى المهتم بالسياسة، وأدى في كثير من الاحيان إلى اغترابه في وطنه، أو إلى اغترابه الفعلي إلى الخارج، وإلى وجود رقيب داخلي في ذاته حتى إن قام بكتابة مقالة سياسية هادئة فالنشر لا يتم إلا ضمن المتاح. من زاوية ثانية، وقع بعض السياسيين الملتزمين العرب في حبائل النظام الرسمي العربي، وحصروا مهمتهم في كتابة خطاباته وترويج سياساته المختلفة، والسياسيون الذين يناقضون مواقفهم السابقة، ينقلبون مائة وثمانين درجة في التعليق على الحدث نفسه.. ولكن مع اختلاف الجغرافيا، هذا لا يعني عدم تطوير السياسي لذاته من خلال التفاعل مع المستجدات، أو لانخداعه سابقا بالوهج الذي يشع من ظاهرة ما.. ليعود في ما بعد ليكتشف حقيقة هذه الظاهرة.
غالبية السياسيين الديمقراطيين العرب، أخذوا يهيئون للنظام السياسي العربي ديكتاتوريته وقمعه، وهم في حقيقتهم أشرس وأعتى من أعتى النظم الديكتاتورية عندما يتسلمون مسؤولية ما في بلدانهم، ومن بين السياسيين من لا يستغلون تقنيات العصر في ما يقدمونه من آراء، او ما يكتبونه من مواقف متناقضة تماما في فترة زمنية قصيرة، أو ما يتحدثون عنه في ندوات تبعا للحدث ذاته وفقا لجغرافيا حدوثه، همهم الترويج لذواتهم المتضخمة بـ (الأنا) والإشارة إلى نجاحاتهم، على حساب الحقائق الضائعة في حمى الحوارات الدائرة، وما يكرسونه من إنتاج لثقافة سياسية بائسة، بعيدة عن أي مظهر حضاري. ومن بين السياسيين من يتنكرون لوعود بمواقف معلنة لهم، ويمارسون نقيضها.
في المجرى نفسه، يصب السياسيون الداعون إلى القطرية البغيضة بعيداً عن الهموم القومية، وكذلك الداعون إلى إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء في اصولية بغيضة. كل ذلك يدعو إلى العجب في لامنطقية السياسات العربية الراهنة… تأمل أن يعود للسياسة منطقها الصحيح.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد