الاستغوال أبشع مراحل الامبريالية (2)

بقلم: عدنان الصباح

أخيرا تمكن العرب من الإمساك بالإرهابي الحقيقي بعد أن ظللنا طوال قرن من الزمان معتقدين أن الحركة الصهيونية وحاميتها الولايات المتحدة الأمريكية هما حاضنتا الإرهاب في العالم وحينها لم يكن احد بحاجة لتصويت العرب على من هو الإرهابي فقد كانت قوى الثورة والمقاومة والتصدي وحتى الممانعة قادرة على إخافة الجميع من الوصول إلى هذا المنزلق ولم يكن هناك نظام عربي واحد بقادر على أن يعلن ولو في السر أن هناك إرهابي على وجه الأرض عدا أمريكا وإسرائيل.
اليوم وبفضل ربيع العرب المزور أصبح الإرهاب تعريفا لكل ما هو عربي ومسلم وغابت الامبريالية والصهيونية والرأسمالية واللصوصية وجرائم الإرهاب في فلسطين والعراق وأفغانستان ونسي العالم خليج الخنازير وكمبوديا وفيتنام وحتى نكازاكي وهيروشيما ولم يعد اسم الإرهاب الامبريالية بل العروبة والإسلام وشارك أشباه العرب والمسلمين أيضا بذلك حين باتوا يصبغون بعضهم البعض بالإرهاب كما فعلوا مع سوريا وحزب الله وإيران والعراق وليبيا والقائمة لا زالت مفتوحة على مصراعيها.
كانت معادلة العالم مختلفة كليا وكانت الامبريالية والصهيونية تحسب مليار حساب لوجود الاتحاد السوفيتي وحلفاءه في المعسكر الاشتراكي وكل قوى الثورة والتقدم في العالم, في زمن المنظومة الاشتراكية وزمن دول عدم الانحياز وزمن الوقوف في وجه المطامع الأمريكية كان صوت أمريكا صوتا بغيضا وكان الجميع معنيين بالابتعاد عن هذا الجدري المعدي الذي اسمه الامبريالية والصهيونية.
ليس بعيدا ذاك الزمن الذي كان فيه للاتحاد السوفيتي مكانته وقدرته على الوقوف في وجه الجنون الأمريكي الجامع وحين كانت منظومة الدول الاشتراكية سياجا آمنا لكل قوى الثورة والحرية والعدل وحين لم يكن بإمكان رئيس أمريكي أن يحلم بالاقتراب من مياه كوبا وحين كان بإمكان وزيرة خارجية الثورة الفيتنامية أن تقول لكيسنجر لا داعي لان نتفاوض انسحبوا فقط من بلادنا وأنا اضمن لك ان لا نطلق الرصاص على جنودك من الخلف.
الأمس الذي كانت فيه صين الثورة تصوغ دروس الثوار على وجه الأرض قبل ان تحيك الملابس الرخيصة والعطر الرخيص وتقلد منتجات أمريكا الرأسمالية السلعية وتنافسها في إنتاج ما كان محرما أيام الثورة, صين الثورة كانت المنافس للاتحاد السوفيتي للفعل الثوري قبل ان تكون المقلد للغول الأمريكي في الفعل الرأسمالي وتصبح مشغلا أمريكيا رخيص التكلفة.
كوبا اليوم بآخر ثوارها تستقبل اوباما على أرضها بخجل فماذا سيفعل الآتون حين يغيب الحرس القديم وفيتنام الدرس لم يعد احد يذكر هوامشها على صفحات التلاميذ يقرؤونها قبل فروضهم المدرسية, مصر اليوم ليست مصر عدم الانحياز ولا مصر التأميم ولا مصر النصر في 1956 ولا مصر النهوض بعد هزيمة 1967 ولا مصر البطولة في حرب الاستنزاف وفي العبور.
حتى السعودية اليوم ليست سعودية الرجل الذي طالب كيسنجر بمقايضة مطالبه بمطلب القدس فدفع حياته ثمنا لذلك والذي يجري اليوم ان مصر التي كانت بوابة الصمود صارت بوابة الوصول إلى الأعداء وأيا كانت قضية تيران وصنافير سواء أكانت مصرية التراب والحجر والهواء والماء أم كانت عهدة في يد مصر للحماية من أطماع إسرائيل فقد باتت اليوم بوابة إحضار السعودية إلى إسرائيل عبر بوابة كامب ديفيد وضرورة مشاركة السعودية بها اليوم بعد ان صارت صاحبة تيران وصنافير بقرار مصري فهي ان كانت بعهدة مصر للحماية فالرسالة واضحة لم تعد إسرائيل عدوة السعودية ولا داعي للحماية وهي ان كانت مصرية فالرسالة أوضح فلا شيء مقدس والأرض للمقايضة كما هو القمح أكان حقا أم لم يكن فالمسالة ليست عدة أمتار هنا أو هناك بل قضية تتجاوز ذلك نحو المبدأ وحتى لو كانت سعودية حقا فان طريقة وتوقيت ما جرى يشير إلى أهداف ابعد من قضية إعادة أو تسريب الجزيرتين للسعودية وإذا كان تسريب قطعة من وطن ما ليست جريمة فهي لن تكون كذلك غدا ان أعيد تسريبها لجهة أخرى أو قايض احد ما وطن ما بقيمة ما مع جهة ما بغض النظر عن اسمها حتى لو كانت إسرائيل.
كل شيء تغير في الوطن العربي قبل غيره فقد غاب عراق الصمود وشعاراته ضد أمريكا وحلفائها وانشغلت سوريا بكل كلاب الموت تنهشها وليبيا لم تعد ليبيا الحالمة بالثورة واليمن الموحدة من جزأين تقطع اليوم أوصالها بيديها والسعودية توغل في فعل الجريمة حتى تصل إلى اللحظة التي ستجد نفسها فيها تدمر ذاتها قبل غيرها فهي تتجه اليوم بعد مؤامرات هبوط أسعار البترول وترافقه العجيب مع هبوط أسعار الدولار وبعكس كل القواعد الاقتصادية المعروفة بان انخفاض أسعار النفط يؤدي إلى ارتفاع أسعار صرف الدولار والعكس صحيح تجيء الأوضاع هذه الأيام ليصبح الانخفاض في أسعار النفط كارثي مرتين مرة بسعره ومرة بسعر الدولار نفسه والدولة التي كانت تملك اكبر ترسانة مال ونفط باتت على وشك ان تصبح الدولة صاحبة الأرصدة المدينة للولايات الامبريالية كما سبقتها الكويت والعراق وليبيا من قبل.
الاستغوال الامبريالي يتصاعد بوتيرة مجنونة بعد ان أدارت دفة التلاعب باقتصاد العالم عبر التلاعب بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة والداخلية لعديد الدول وفي المقدمة لعبة الإرهاب الذي تستخدمه أمريكا عصا في وجه كل من يحاول الخروج من تحت عباءتها وهي أتقنت جديا التلاعب بأسعار النفط والذهب والدولار لكي لا يتمكن احد من الإفلات من قبضتها الساعية إلى إفقار العالم لصالح استغوالها المجنون وقدرتها على فرض سيطرتها على الكون وتحويله بمجموعه إلى سوق استهلاكي ليس للقمح والتبغ والويسكي بل للقمع والموت وأدواتهما عبر إنتاج محموم وجنوني لسوق الموت يوميا في سائر أنحاء العالم وقد تمكنت أمريكا اليوم من الوصول إلى مرحلة القدرة على تفتيت المفتت في العالم ليسهل السيطرة على عالم متنازع ومختلف ويعيش حالة احتراب لا يعرف احد متى ستنتهي وهي لا زالت لديها فرص عديدة لإشعال الفتن من جديد وستكون السعودية بوابة النار القادمة وهي دون غيرها بوابة للربح لا حدود لها ستعود على جيوب صانعي أدوات الموت الأمريكيين.
لا أحد خارج اللعبة والتلاعب هذا ما تسعى إليه السياسة الأمريكية المجنونة عبر استغوالها على العالم بعد ان انهار نظام القطبين وحالة التوازن الدولي وقبل العالم سطوتها عليه ولم يعد حتى من يختلف معها يملك هدفا ابعد من الحصول على حصة ما في الكعكة التي تصوغها أمريكا بنفسها.
بقلم
عدنان الصباح