لغز حرب أكتوبر… ووثيقة مشكوك فيها د.

بقلم: فايز رشيد

لم تتعرض حرب، أو جرى الكتابة حولها مثل حرب أكتوبر 1973، يوم استطاع الجيشان العربيان المصري والسوري من اختراق خط بارليف (الذي جرى تشبيهه بخط ماجينو) وخطوط النار في هضبة الجولان.
لكن السادات أراد الحرب تحريكية لقضية سياسية، وهي احتلال الكيان الصهيوني للأراضي العربية، خاصة صحراء سيناء، ولم يردها حربا تحريرية، ثم كانت ثغرة "الدفرسوار" ودخول القوات الإسرائيلية إلى الضفة الأخرى للقناة، تلا ذلك، وقف إطلاق النار، الذي تدخلّ فيه، كما في أحداث الحرب هنري كيسنجر، مفاوضات "الكيلو 101". تتابعت الأحداث بعدها إلى زيارة الرئيس السادات للكيان، وما اصطلح على تسميته المباحثات العربية ـ الإسرائيلية في مؤتمر مدريد. ثم توقيع اتفاقيات كمب ديفيد، التي أخرجت أكبر دولة عربية من الصراع العربي ـ الصهيوني، وحددت حجم القوات المصرية في سيناء.
هذه أحداث عايشها جيلنا ويعرفها كثيرون، كتب عنها كثيرون، منهم الفريق سعد الدين الشاذلي "مذكرات حرب أكتوبر"، المشير محمد عبد الغني الجمسي "مذكرات الجمسي"، الفريق يوسف عفيفي "أبطال الفرقة 19.. مقاتلون فوق العادة"، صلاح قبضايا- المحرر العسكري لجريدة "الأخبار" المصرية إبان حرب أكتوبر بعنوان "الساعة 1405"، محمد حسنين هيكل "أكتوبر 73 السلاح والسياسة"، وهو الجزء الرابع والأخير من سلسلة "حرب الثلاثين سنة، من الكتب المهمة أيضا "مصر في زمن الإبهام" مذكرات فينوغرادوف وغيرها الكثير.
على الجانب الصهيوني، صدرت كتب كثيرة، منها الكتاب الأهم "التقصير"، مذكرات غولدا مائير، مذكرات دايان "حرب يوم الغفران"، لقد قامت إسرائيل بتشكيل لجنة لتقصى الحقائق برئاسة رئيس العدل شيمون "اجرانات"، وجرت تسمية اللجنة باسمه، وقد اصدرت هذه اللجنة تقريرها في 1500 صفحة، لم يُنشر منها سوى 40 صفحة فقط، وفي يناير 2005 وافق الكنيست على قانون يمنع نشر ذلك التقرير على الرغم من مرور 30 عاما على صدوره في عام 1975. يبقى الكتاب المهم أيضا وهو "مذكرات هنري كيسنجر"، الذي تطرق فيه إلى الحرب المعنية ومدى الحرص لديه على تعديل ميزان المعركة، حيث لا يكون فيها منتصر أو مهزوم، وفي المذكرات وصف تفصيلي عن شخصية السادات المحيرة، واستعداده المطلق لتقديم ما لم تطلبه منه إسرائيل أو أمريكا، ما أثار استغرابهما. إن تتابع قراءة كل ما نشر، يعني أن تظل سنوات طويلة تقرأ، ويتولد الشعور لديك: بأنك لم تعرف الكثير بعد.
مناسبة الكتابة عن الحرب من جديد، وثيقة جرى إعادة تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي حديثا بشكل كبير، وهو ما يدعوك إلى الاستغراب والتساؤل عن الهدف من ترويجها مجددا، خاصة أنها أول ما ظهرت في عام 2012 عن اليهودي الروسي المفتخر دوما بمعارضته للصهيونية، إسرائيل شامير، الذي هاجر إلى الكيان مبكرا وقاتل في تلك الحرب. يدّعي شامير أنه فوجئ بابن السفير السوفييتي في القاهرة إبان حرب أكتوبر، فلاديمير فينوغرادوف وهو يسلمه مغلفا أزرق اللون، يعود تاريخه إلى عام 1975، ويحتوي على الإضبارة السرية التي كتبها السفير السوفييتي في القاهرة، والتي تحوي أعمق أسرار الشرق الأوسط والدبلوماسية الأمريكية المدفونة بعناية، ويستطرد "يبدو أنها مذكرة موجهة إلى المكتب السياسي للحزب"، مؤكدا على أن السفير أوضح في الرسالة، أن حرب أكتوبر 1973 هي صفقة مؤامراتية بين الولايات المتحدة والقادة المصريين والإسرائيليين، بإدارة هنري كيسنجر، مستطردا بالحرف "أنا، كإسرائيلي حارب المصريين عام 1973 انزعجت أيضا، رغم أن هذا الاكتشاف أثار لديّ التشويق، وقد تصعق هذه الحقيقة الفرد الأمريكي أيضا".
بموجب مذكرة فينوغرادوف هذه، التي نشرتها مجلة Expert الروسية حينها، فإن أنور السادات اشترك في مؤامرة مع الإسرائيليين، وخان سوريا الحليفة، ما أدى إلى تحطيم الجيش السوري وقصف دمشق، وسمح لدبابات الجنرال شارون أن تعبر إلى الضفة الغربية لقناة السويس بدون أي إعاقة، ما أدى إلى هزيمة القوات العسكرية المصرية في حرب أكتوبر. لكن السادات لم يكن المتآمر الوحيد، فالعجوزغولدا مائير أيضا ضحت بألفين وخمسمئة جندي وضابط من أحسن المقاتلين الإسرائيليين (حسب قول مذكرة فينوغرادوف)، فلربما اعتقدت بأن عددا أقل كان سيقتل – في سبيل أن تمنح السادات لحظة من المجد وأن تدع الأمريكيين يضمنوا مواقعهم في الشرق الأوسط. أن هذه المذكرة تفسح المجال لفهم جديد كلي لاتفاقية كمب ديفيد على أنها بنيت على الخديعة والخيانة.
إن أهم ما في المذكرة، ما يعتبره فينوغرادوف مؤامرة ( وفقا لشامير بالطبع) ويسوق الدلائل/ التساؤلات التالية: لقد اتخذ قرار الحرب منذ أبريل مع سوريا بصورة مشتركة، فكيف لم تعرف إسرائيل وأمريكا بذلك؟ كيف غدا الهجوم المصري والسوري مباغتا، إذا ما كان الاتحاد السوفييتي قد أجلى قبل عدة ايام من 6 أكتوبر الرعايا الروس من مصر؟ كان المصريون يجرون في تلك الفترة مناورات استُخدمت كتغطية لتحشيد تجميع قواتهم المسلحة عمليا من أجل عبور قناة السويس. فهل لم يلاحظ ذلك العملاء السريون الأمريكيون والإسرائيليون؟ لماذا لم يُحذّر السادات الاتحاد السوفييتي من العمليات الحربية المقبلة؟ فقد كان من النافع بالنسبة إليه، الحصول على الدعم السوفييتي مسبقا ـ لأن مصر كانت تعتمد كليا على إرساليات المعدات الحربية والذخائر وقطع الغيار السوفييتية؟ لماذا طلب السوريون من الاتحاد السوفييتي فورا لدى ابلاغه في 4 اكتوبر بموضوع العمليات الحربية، أن يأخذ المبادرة بعد بدئها وبلا تأخير في طرح مسألة وقف اطلاق النار؟ لماذا طلب السوريون مجددا ـ بعد بدء العمليات الحربية ـ طرح مسألة ايقاف إطلاق النار؟ لماذا لم تواصل القوات المسلحة المصرية بعد عبور القناة، الزحف إلى عمق شبه جزيرة سيناء ـ رغم عدم وجود قوات اسرائيلية في هذا الإتجاه، قادرة على إبداء مقاومة جدية (اذا لم يكن لها وجود هناك فحسب)؟ لماذا لم تتوفر لدى القوات المسلحة المصرية عموما الخطط لمواصلة الهجوم في العمق، في حالة نجاح العبور؟ لماذا لم تقدم الولايات المتحدة المساعدة العسكرية إلى إسرائيل فور بدء العمليات الحربية، بل تريثت على مدى بضعة أيام قبل أن تبدأ بإقامة الجسر الجوي لنقل المعونات بواسطة الطائرات؟ لماذا أعطت الولايات المتحدة إلى المصريين الفرصة لتوجيه الضربات الموجعة إلى القوات الاسرائيلية، وبدأت العمل الحازم بصورة متأخرة؟ لماذا لم يتم اطباق اجنحة الجيشين الثاني والثالث المصريين في سيناء ما يعتبر خطأ فاحشا حتى بالنسبة للضباط من المرتبة المتوسطة، ناهيك عن الجنرالات؟ كيف أمكن أن تعبر أولى الدبابات الاسرائيلية من الضفة الغربية للقناة "بدون أن تُلاحظ". فهل لم توجد لدى المصريين دوريات ومفارز استطلاع بسيطة، توجد حتى لدى قوات حرس الحدود؟ ويستطرد التقرير معددا تساؤلات موضوعية اخرى.
ينفي فينوغرادوف فكرة المفاجأة، ففي نظره كان عبور المصريين القناة، ثم اقتحام شارون مخططا له ومتفقا عليه مسبقا، من قبل كيسنجر والسادات ومائير. واشتملت الخطة على تحطيم الجيش السوري، يقتبس فينوغرادوف عن شرلوك هولمزقوله: "إذا كنت قد أسقطت من حساباتك المستحيل، فكل ما تبقى يجب أن يكون الحقيقة، مهما كان بعيد الاحتمال". ويستطرد: لا تمكن الإجابة عن هذه الأسئلة، لو اعتبرنا السادات وطنيا مصريا حقيقيا. ولكننا نستطيع ذلك (الإجابة) إذا أخذنا بالاعتبار إمكانية التآمر بين السادات والأمريكان والقيادة الإسرائيلية – مؤامرة سعى كل طرف مشارك فيها إلى تحقيق أهدافه الخاصة. مؤامرة لم تكن تعرف أي جهة مشاركة فيها تفاصيل لعبة الأطراف الأخرى. مؤامرة حاول كل طرف الحصول على المزيد من المكاسب، رغم الاتفاق الشامل بينهم.
في حياته، كنت على اتصال دائم بالفريق سعد الدين الشاذلي، كان يؤكد لي في كل تساؤل أطرحه عليه، ما جاء في كتابه عن الحرب، ولم أذكر مطلقا أنه تحدث عن مؤامرة! وتفضلّ شاكرا بكتابة مقدمة كتابي الذي أعتز به "زيف ديمقراطية إسرائيل". بدوري، اتصلت حديثا بكل من السياسي والإعلامي الروسي ماتوزوف، وواحد من أكبر السياسيين الاستراتيجيين الروس، وهم مستشار مهم للرئيس بوتين، أوليغ فومين. نفيا أي معرفة لهما بالوثيقة. ملخص القول: إن الوثيقة التي يدّعيها شامير تهدف إلى تعميم مقولة "العجز العربي عن القتال"، فلأول مرة يأسر الجنود المصريين جنودا إسرائيليين، كان ذلك في 7 أكتوبر 1973وقد رأيت الصورة على صدر صحيفة "برافدا" أثناء وجودي في موسكو. ثم، لا يمكن للكيان التضحية بـ 2500 جندي إسرائيلي باتفاق مع المصريين والسوريين! خاصة أن الكيان يعتمد كثيرا على العنصر البشري. كذلك، كيف لم تجد الوثيقة طريقها إلى المكتب السياسي للحزب الحاكم؟ كما أن خبرا ولو صغيرا عن الوثيقة لم يتضمنه كتاب فينوغرادوف عن الموضوع. ثم لماذا اختار فينوغرادوف هذا الكاتب، الذي هاجر إلى الكيان، وقاتل في جيش الكيان؟ مع العلم، انه توسّل السماح له بالعودة إلى موسكو! كل هذه التساؤلات تدحض وجود الوثيقة من الاساس. باختصار، لقد أثبتت الحرب، قدرة الجندي العربي على القتال إذا ما وجدت الإرادة وقرار القتال من قادته.

٭ كاتب فلسطيني
د. فايز رشيد/ القدس العربي