منطقة الشرق الأوسط تعاني من حالة من عدم الاستقرار،وهي ساحة للصراع بين أطراف متشابكة ومتعارضة ومتناقضة المصالح والأهداف،كل طرف ومن خلفه مروحة واسعة من الحلفاء يريد ان يحفظ ويحمي مصالحه ويحقق أهدافه،ويقوي حلفاؤه،لكي يكونوا مقررين او على الأقل يلعبون دوراً بارزاً على التأثير في شؤون المنطقة،أمريكا وروسيا بعد إستعادة روسيا لدورها بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي،هما اللاعبان الأساسيان في رسم خرائط المنطقة وأشكال تحالفاتها ولاعبيها الرئيسيين،إستناداً الى ما يحققه حلفاء كل منهما من إنتصارات أو إنجازات أو إنكسارات وهزائم على الأرض وفي الميدان.
أمريكا عندما تسيدت العالم وأصبحت الشرطي المتحكم بمقدراته وشؤونه "تثيب" من تشاء و"تعاقب" من تشاء،بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وتفككه وسقوط ما يسمى بإمبراطورية الشر،وجدت بأن الظرف مؤات لها لكي تقرر شؤون منطقة الشرق الأوسط وتحكم سيطرتها عليها لمئة عام قادمة،وأن تجعل من حلفائها الإستراتيجيين في المنطقة لاعبين رئيسيين "إسرائيل "،تركيا والسعودية،بالمقابل تعمل على تفكيك حلف ومحور المقاومة او ما نعتته بمحور الشر من روسيا مروراً بإيران وسوريا وانتهاءاً بحزب الله والضاحية الجنوبية،وهي سعت ووظفت كل إمكانياتها وطاقاتها وجندت حلفائها من أجل تدمير ركائز المشروع القومي العربي،ومنع انبعاثه لمئة عام قادمة على الأقل،حيث جرى احتلال العراق وتفكيك الجيش العراقي وتقسيمه جغرافياً الى دويلات مذهبية وطائفية،وعندما غرقت أمريكا في وحل المستنقعين الأفغاني والعراقي،وجدت ان سياسة الحروب الإستباقية قد فشلت في تحقيق اهدافها،ولذلك اخذت بالبحث عن تحقيق أهدافها عبر ادواتها في المنطقة ،فعهدت الى إسرائيل بخوض حرب بالوكالة عنها لأول مرة من خلال شن حرب عدوانية على حزب الله بإعتباره ذراع متقدم لإيران في المنطقة وحليف موثوق واستراتيجي لسوريا،ولذلك كانت الحرب العدوانية التي شنتها إسرائيل على حزب الله والمقاومة اللبنانية في تموز/ 2006 من اجل خلق شرق أوسط كبير،لإسرائيل فيه اليد الطولى مع نفوذ مميز لتركيا والسعودية،ولكن الفشل الإسرائيلي في تلك الحرب،منع ولادة مثل هذا المشروع،ولتأتي لاحقاً ما يسمى بثورات الربيع العربي،ولكي يحقق الإخوان المسلمين نجاحات وتقدم لمشروعهم بالسيطرة على السلطة في مصر وتونس،وما عنى ذلك من زيادة نفوذ الإخوان المسلمين في اكثر من بلد عربي واسلامي وبالذات حركة الاخوان في تركيا والتي تحكم من قبل حزب سياسي إسلامي- إخواني يقوده أردوغان (حزب العدالة والتنمية).
وفي سياق تحليلنا لهذه المشاريع،نقول بأن المشروع الإيراني الأن يحقق نجاحات كبيرة،وايران استطاعت بفضل صمودها وصلابة قياداتها،ان تتحول الى رقم صعب في الصراع الدائر الان،حيث شنت عليها امريكا حرباً شاملة من اجل تحطيمها و"تقزيم" طموحاتها وتهميش دورها في المنطقة،فقد تعرضت لحصار ظالم وعقوبات اقتصادية ومالية وتجارية وسياسية إمتدت لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً،وسعت واشنطن وبمساندة من ادواتها في المنطقة "اسرائيل"،تركيا ومشيخات النفط العربي الى شيطنة ايران وبث سموم الفتن المذهبية وشعبنتها وحرف الصراع عن قواعده وأسسه من صراع عربي- "اسرائيلي" الى صراع عربي- فارسي،ناهيك عن السعي الدائم لكسر شوكة حليفها وقاعدتها المتقدم في المنطقة حزب الله،عبر الحروب التي شنتها اسرائيل عليه،وكذلك شيطنته وفرض عقوبات اقتصادية ومالية عليه،ولتصل حد اعتباره منظمة "إرهابية"،وكذلك حليفها الإستراتيجي الأسد،شنت عليه حرب كونية ظالمة،من اجل إسقاطه،ولكن رغم ذلك بقيت حلقات المقاومة متماسكة،حيث أجبر الصمود الإيراني الولايات المتحدة على توقيع الإتفاق النووي معها،وكذلك دعمها عسكرياً ومادياً وسياسياً لسوريا،مكن النظام السوري من الصمود،ودحر قوى العدوان،وأيضاً حليفها الإستراتيجي حزب الله بقي صامدا وشامخاً،كل ذلك وسع من دور ونفوذ وحضور ايران في المنطقة ليطال اكثر من ساحة كاليمن والعراق وفلسطين.
أما المشروع التركي الذي رفع زعيمه أردوغان شعار"صفر" مشاكل" مع الجيران والمحيط العربي – الإسلامي،ونجاحه في تحقيق حالة من النهوض والتطور والإستقرار الإقتصادي في تركيا،فقد اعطى ذلك مصداقية كبيرة للمشروع التركي،وضرب نموذجاً إيجابياً عن الإسلام السياسي،ومع قيام ما يسمى ب"الثورات" و"الربيع" العربي،وتحقيق حركة الإخوان المسلمين لنجاحات كبيرة عبر السيطرة على السلطة في مصر وتونس،وتعمق نفوذ الإخوان في الكثير من البلدان العربية،فقد اعطى ذلك لأردوغان وحزبه المتماثل مع حركة الإخوان والمنخرط فيها زخماً كبيراً في الداخل التركي وفي العالمين العربي والإسلامي،ولكن مع السقوط المدوي للإخوان في مصر وتونس،والتدخلات السافرة لتركيا في الأزمتين السورية والعراقية والدعم اللامحدود الذي قدمته للجماعات الإرهابية والتكفيرية "داعش" و"النصرة" في سوريا من اجل إسقاط النظام السوري،ونجاح النظام السوري وجيشه وشعبه في الصمود امام هذه الغزوة،وتفجر الصراعات بين تركيا والأكراد، وإنكشاف حقيقة الدور التركي وإصطفافه الى جانب قوى العدوان على الأمة العربية واطماعه في الجغرافيا السورية،فقد حرقت اوراق النظام التركي،والذي إنتقل من مرحلة "صفر" اعداء الى "صفر" أصدقاء،وانكفأ الدور التركي وتعرض النظام الى عقوبات اقتصادية وتجارية ومالية وسياحية ونفطية روسية،بسببها مجتمعة تراجع دور ونفوذ حزب أردوغان في الداخل التركي،وكذلك تراجع النمو الإقتصادي بشكل كبير،كل ذلك أثر على المشروع والدور التركي المربك في المنطقة،وليفشل في ان يحجز له مكانة ودوراً نافذاً ومقرراً في شؤون المنطقة .
أما المشروع الثالث في المنطقة ،فهو المشروع الصهيوني،والذي استفاد كثيراً من ما حدث في المنطقة والإقليم،حيث ان تحطم الجيوش المركزية الثلاث ل ( العراق ،سوريا ومصر) ودخول المنطقة العربية في حالة من حروب التدمير الذاتي،الحروب المذهبية والطائفية،فقد مكن ذلك الإحتلال من الشعور بالأمن والطمأنينية،فلم تعد تلك الجيوش تشكل خطراً على وجوده،ولولا ذلك لم تجرا وتبجح نتنياهو لعقد جلسة لحكومته على أراض الجولان السوري المحتل،وكذلك تلك الحروب،المشتركة والمصطفة فيها العديد من البلدان العربية الى جانب العدو في العدوان على سوريا والعراق وحزب الله،وخوف تلك البلدان على عروشها ودورها في المنطقة من ايران وحلفائها،جعلها تتجه الى إخراج علاقاتها السرية العسكرية والأمنية والإقتصادية والتجارية والدبلوماسية الى العلن مع "اسرائيل"،معتبرة بان صراعها الأساسي مع ايران وليس مع "اسرائيل".
أما المشروع الرابع فهو المشروع العربي القومي الذي ترفع رايته سوريا على وجه الخصوص ومعها مروحة واسعه من القوى القومية والتقدمية والعلمانية العربية،فهذا المشروع يتعرض للذبح من اكثر من طرف أمريكا والقوى الإستعمارية الغربية والقوى الدينية والسلفية العربية والإسلامية ومعتنقيي الفكر الوهابي التكفيري،ورغم تعرض هذا المشروع الى الكثير من الهزائم،إلا ان الصمود السوري وما يشهده العراق واكثر من بلد عربي من تحولات ايجابية،تجعل ممكنات نهوض هذا المشروع كبيرة،وبما يعيد للقومية العربية مكانتها الطبيعية في قلوب ملايين العرب المؤمنين بالفكرة وبوحدة الأمة واهدافها المتجاوزة للقطرية والتفكيك والتذرير.
السعودية رفعت مشروعاً شعاره "القومية السنية"،هذا المشروع قام على أساس تكتلات واحلاف عسكرية وامنية سنية من اجل ليس الدفاع عن الأمة العربية وحقوقها وامنها القومي وتحرير المحتل منها،بل جاء لمواجهة المشروع الإيراني في المنطقة،بدل التكامل والتحالف معه،وهذا المشروع الذي تعتمد فيه السعودية على رصيدها المالي وما تملكه من المليارات،لن يكتب له النجاح لكونه مشروع فئوي ومذهبي،لا يشكل قاعدة للتوحيد والتجميع،ويقوم على فكر اقصائي.
الان المشروعان الرئيسيان في المنطقة في ظل غياب المشروع القومي،الذي يعيش إرهاصات النهوض،فإن هناك مشروعان فاعلان في المنطقة لهم الدور والنفوذ والمكانة،المشروع الإيراني وما يعبر عنه بمروحة واسعه من التحالفات مع قوى ومحور المقاومة والممانعة ،والمشروع المتصارع معه "اسرائيل" ومروحتها الواسعة المتحالفة معها عربياً وإسلامياً ودولياً.
بقلم/ راسم عبيدات