لماذا يجب على مصر الاحتفاظ بالجزيرتين

بقلم: فايز رشيد

سيظل تخلي مصر عن جزيرتي تيران وصنافير مجالا واسعا للتعليقات والاحتجاجات حاضرا ومستقبلا، لأننا في زمن دفاع كل الدول عن أمتار من أراضيها، ولو بمحاربة قتالية مسلحة لمن يريد احتلالها والتعدي عليها.
حتى مصر ما قبل السيسي وفي إثبات عروبة طابا، من تعدي الكيان عليها، لجأت إلى محكمة العدل الدولية، التي بدورها وقبل إصدار حكمها، اطّلعت على كل الوثائق والخرائط التاريخية المتعلقة بالقضية. جاء القرار بالطبع بعروبة طابا ورد الدعوى الإسرائيلية. ذلك أن الكيان جرى إنشاؤه عام 1948 وكانت مصر آنذاك قد مضى عليها آلاف القرون التاريخية قبل بدء تسجيله وبعده. بالطبع حاول الكيان من خلال الإصرار على تبعية طابا له، إثبات أحقية وجوده التاريخية في الأرض الفلسطينية، وفقا لأساطيره التضليلية المعروفة، التي ما زال يروجها.
ولأن القضية، أي قضية، ووفقا للمقولة الفلسفية، يتوجب محاسبتها وفقا للسياق التاريخي الذي جرت فيه، فإن من الاستحالة بمكان فهم تفريط نظام السيسي بالجزيرتين في هذه المرحلة تحديدا، لأننا لا نعيش أجواء الوحدة العربية، وشكل الدولة العربية الواحدة. ولأننا كذلك نعيش صراعا تاريخيا مع الكيان الصهيوني، الذي يتفاخر بعلاقاته المميزة وتنسيقه الأمني مع نظام السيسي، أيضا، تأتي الخطوة في ظل ما يؤكده الإسرائيليون عن علاقاتهم المميزة وتنسيقهم مع السعودية. لقد عبّر القادة والصحافيون الإسرائيليون عن تفريط النظام المصري الحاكم بالجزيرتين، بأصوات وكتابات عكست إيفوريا (فرحا) حقيقيا بالخطوة. التخلي عن الجزيرتين ارتد عكسيا على نظام السيسي، وتمظهر في موجات غضب عارم من الشعب المصري الأصيل، استنكارا لقرار من رئيس نظام سيطر على السلطة في غفلة من الزمن، بطريقة لا يعرفها أحد، وسبق أن نجا من حادثة تفجير الطائرة المصرية (غير معروفة الأسباب حتى الآن) بتأخيره، الذي ربما كان مقصودا! عن رحلتها من أمريكا إلى القاهرة ، وذهب ضحيتها 67 ضابطا عسكريا وخبيرا استراتيجيا مصريا من خيرة عسكريي الجيش المصري، ممن تلقوا تدريبهم في الولايات المتحدة، الراعية الأولى على المستوى الدولي للكيان الصهيوني، وحليفته الاستراتيجية، والحريصة كل الحرص على تدمير أقوى ثلاثة جيوش عربية أمام جيش ابنتها المدللة. إن بعض ما كتبناه، كان استراتيجيات واضحة وقرارات لـ"مؤتمر الأمن القومي الإسرائيلي" الذي انعقد في الكيان منذ ما ينوف عن الشهرين، ومُثبت في أقوال وكتابات المسؤولين الإسرائيليين.
أيضا، فإن الجزيرتين وإضافة إلى حديث الرئيس الخالد عبدالناصر عن تبعيتها لمصر مرارا وفي تسجيلات إذاعية وتلفزيونية عديدة، شكلتا بُعدا استراتيجيا للبلد العربي الأكبر في الصراع مع العدو الصهيوني، وقد كان إغلاق مضيق تيران في 22 مايو 1967 سببا مباشرا في قيام الكيان الصهيوني بشن حرب في العام ذاته على ثلاث دول عربية آنذاك. أما تطور الأحداث بعد قرار الإغلاق فقد جرى كالتالي، لقد أعلن عبد الناصر أنه إذا أرادت إسرائيل الحرب فلتتفضل. في 23 أيار أعلن أشكول في الكنيست أن منع الملاحة في المضائق يعتبر عملاً عسكرياً. وفي مساء اليوم نفسه أعلن الرئيس الأمريكي ليندون جونسون أن إقفال المضائق يعتبر عملاً غير قانوني، تماما كما في 24 أيار أعلنت كل من أمريكا وبريطانيا، ضرورة فتح مضائق العقبة للملاحة الدولية، ولو أدى ذلك لاستعمال القوة. في 26 أيار اجتمع أبا ايبان وزير خارجية إسرائيل مع الرئيس الأمريكي، وأعلن بعد اللقاء عن انسحاب القوات الدولية من شرم الشيخ، بعد أن كانت فيها إثر حرب السويس عام 1956 بناء على قرار دولي من مجلس الأمن، فرض على مصر الموافقة على تأمين حرية الملاحة لكافة الدول في المضيق، بما في ذلك إسرائيل. في 26 أيار أعلن الخالد عبد الناصر: أنه إذا قامت إسرائيل بعمل عدواني ضد أي دولة عربية، فإن حرب مصر معها ستكون شاملة، وبهدف تطهير الوطن الفلسطيني المحتل من الصهاينة.
متهما الولايات المتحدة بأنها العدو الأكبر وأن بريطانيا تابعة ذليلة لها. في تلك الأثناء طالب الرئيس الأمريكي عبد الناصر بضبط النفس وعدم المبادرة بالعدوان. وفي الساعة الثالثة والنصف من صباح اليوم التالي حمل السفير السوفييتي في القاهرة رسالة مماثلة من كوسيغين رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي إلى الرئيس المصري، تطالبه أيضا بعدم بدء الحرب في ظل ضمانة دولية (أمريكية بشكل خاص) بأن لا تبدأ إسرائيل الحرب. أما يو ثانت أمين عام الأمم المتحدة، الذي زار القاهرة، فقد أعلن أن مصر لن تكون البادئة بالعدوان وأنها ترغب في إعادة لجنة الهدنة المشتركة التي كانت قائمة قبل عدوان السويس. في 30 مايو وصل الملك حسين فجأة إلى القاهرة ووقع مع مصر معاهدة دفاع مشترك. في 1 يونيو أعلنت إسرائيل التعبئة العامة، وانضم موشي ديان إلى الوزارة الإسرائيلية كوزير للدفاع. في 4 يونيو أكد السفير العراقي للحكومة الأردنية، أن معلومات مؤكدة وصلت إلى الاستخبارات العسكرية العراقية، تؤكد أن إسرائيل ستشن هجومها يوم 5 حزيران، كما أكد ذلك عملاء الاستخبارات المصرية في الكيان (وفقا لكتابي محمد حسنين هيكل بعنوان "الانفجار"، وهشام شرابي "السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط"، وكتب كثيرة أخرى). لقد أبلغ الملك حسين ذلك للرئيس عبد الناصر في اليوم نفسه. يوم 5 يونيو 1967 بدأ الهجوم الإسرائيلي على الجبهة المصرية، وعلى الجبهتين السورية والأردنية، وأسفرت الحرب للأسف عن احتلال الكيان الصهيوني لصحراء سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية، وبالطبع قطاع غزة. بعد كل هذا التاريخ الحافل، أيُعقل أن يتخلى نظام السيسي عن الجزيرتين؟
لقد رأى باحثون غربيون أن إعلان تسليم جزيرتي صنافير وتيران من مصر الى السعودية ربما يعكس حالة نضوج في العلاقات السعودية – الاسرائيلية، معتبرين أن هذا التطور "يشير الى توسع أجندة المصالح المشتركة بين الطرفين"، حسب تعبيرهم. وفي الإطار نفسه، شدد باحثون إسرائيليون على أن "الاتفاق حول الجزيرتين وما رافقه من خطط لبناء جسر في مضيق تيران يشير الى عمق العلاقة الاستراتيجية بين كل من السعودية ومصر وإسرائيل". في وقت شدد فيه باحثون أتراك على أن الدفء في العلاقات التركية – السعودية سيستمر في ظل وجود عناصر مشتركة بين قيادتي البلدين. أيضا، كتب الباحث المعروف سيمون هيرش مقالة نشرها على موقع "معهد واشنطن لشؤون الشرق الادنى" بتاريخ الثالث عشر أبريل الجاري، أشار فيها الى أن "الاعلان عن تسليم مصر جزيرتي صنافير وتيران الى السعودية لقي معارضة غاضبة داخل مصر، وقال "يبدو أن الشارعين المصري والسعودي على قناعة بأنه تم التوصل إلى تسوية مع إسرائيل"، أيضا فيما يخص بناء الجسر عبر مضيق تيران للربط بين مصر والسعودية، الذي جاء ضمن الاتفاق حول الجزيرتين، ولفت الكاتب الى تصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في العاشر من أبريل الجاري والتي قال فيها إن "الرياض لم تجر أي اتصالات رسمية مع إسرائيل" حول تسلم الجزيرتين، الا أنها ستبقى مناطق منزوعة السلاح كما تنص عليها اتفاقيات كامب ديفيد. موقع "أل- مونيتور" بدوره، نشر مقالة للكاتب الاسرائيلي بن كاسبت 13 ابريل الحالي، أكد فيها أن الاعلان عن تسليم مصر جزيرتي تيران وصنافير الى السيادة السعودية، لم يكن مفاجئاً ابداً لاسرائيل. موضحاً أن إسرائيل أعطت موافقتها على العملية ولم تطلب إعادة فتح اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، رغم أن أي نقل للسيادة المصرية على هذه الجزر يشكل انتهاكاً لهذه الاتفاقية. كما اعتبر الكاتب أن هذا التطور يشكل "دراما جيوستراتيجية ودبلوماسية حقيقية"، لافتاً الى أن "وزير الحرب الإسرائيلي موشي يعالون وخلال لقائه عدداً من الصحافيين العسكريين، أكد أن الكيان وافق بالفعل على الخطوة، وتلقت إسرائيل وثيقة مكتوبة وقعت عليها كافة الاطراف". وقال إن الوثيقة أكدت حق إسرائيل في حرية الملاحة في مضيق تيران، حيث تقع الجزيرتان. كذلك كشف بأن يعالون أشار إلى أن الامريكيين شاركوا بالمفاوضات وهم ايضاً من الموقعين على الاتفاق. من جانبه، أكد يارون فريدمان في موقع "يديعوت أحرونوت" الإلكتروني، أن الاتفاق يعني تحول مصر من دولة عظمى إقليمية إلى دولة تابعة للسعودية، بسبب تدهور اقتصاد مصر. وأوضح أن "المساعدات الاقتصادية الكبيرة تعني اعتماداً، وأنه كلما زاد هذا الاعتماد ظهرت لإسرائيل بشكل متزايد، عوامل مساعدة جديدة لإسرائيل في علاقاتها العربية. كما يلاحظ مؤخرا، ارتفاع وتيرة الدور السعودي عربيا لصالح انكفاء الدور المصري ودور دول عربية أخرى.
لكل ما سبق من توضيح للأهمية الاستراتيجية للجزيرتين بالنسبة لمصر، وكذلك لردود الفعل الإسرائيلية، كما الدوائر الغربية على عملية التخلي المصري عنهما، تتضح أهمية احتفاظ مصر بهما، ولا نستغرب أن تعود مصر للمطالبة باستعادتهما بعد مرحلة السيسي. الجزيرتان استراتيجيا، أرض ، تاريخ ، وأحداث مهمة في التاريخ العربي المصري.

٭ كاتب فلسطيني

د. فايز رشيد/ القدس العربي