نقلت بعض مواقع الأخبار المحلية وبصورة محدودة جدًا نبأ افتتاح أعمال مؤتمر الكنائس الفلسطينية المحلية والأمريكية، وذلك في الواحد والعشرين من أبريل الجاري في مركز الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في مدينة أتلانتا.
ولقد عرفنا مما جاء في الخبر اليتيم أن الرئيس كارتر شارك في اليوم الثالث للمؤتمر وفي الجلسة الختامية وألقى فيها كلمة كانت بمعظمها في صالح القضية الفلسطينية، إذ حث الإدارة الأمريكية ومجلس الشيوخ على وجوب الترحيب بمساعي الفلسطينيين للتوجه إلى مجلس الأمن، حيث يجب أن لا تقابل هذه المساعي بالفيتو الأمريكي، بل بالدعم والتأييد. كما توجه إلى الرئيس أوباما وطالبه بأن يعلن صراحةً معارضته للسياسة الإسرائيلية واستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية.
يتضح من قلة ما نشر من تفاصيل حول أعمال هذا المؤتمر وما سبقها من إعداد وتحضيرات، أنه التأم بحضور رؤساء تسع وعشرين كنيسة أمريكية وثمانية عشر من رؤساء منظمات تابعة لمجلس كنائس أمريكا ومجلس الكنائس العالمي ومجلس الكنائس اللاتينية الأفريقية، ومعهم شارك رؤساء الكنائس المحلية الأساسية: بطريرك الكنيسة اللاتينية العربي فؤاد طوال، رئيس أساقفة الكنيسة الأنجليكانية، العربي سهيل دواني، رئيس الاتحاد اللوثري العالمي ورئيس الكنيسة اللوثرية العربي د. منيب يونان، والأب العربي إبراهيم فلتس نائبا عن حارس الأراضي المقدسة، والبطريرك اليوناني ثيوفولوس، الكنيسة الاورثوذكسية، وكذلك شاركت شخصيات ناشطة في الحقلين السياسي والاجتماعي، ورئيس وأعضاء اللجنة الرئاسية للشؤون المسيحية.
لقد أفاد الخبر المنشور أن المؤتمر جرى بأجواء داعمة للقضية الفلسطينية، توّجت بإعلان بعض الخلاصات العامة الإيجابية، مثل حث الإدارة الأمريكية على ضرورة تبنيها موقفا متوازنا وعادلا يمهد إلى السعي بخطوات عملية باتجاه عملية ناجحة تفضي إلى حل النزاع وإلى سلام عادل ودائم، كما أوصى المؤتمرون بضرورة زيادة الزيارات المتبادلة وزيارة أفواج الحجاج، لا سيما إلى مدن فلسطين، أما أبرز التوصيات، كما جاء على لسان الخبر، فكان تشكيل لجنة مشتركة للمتابعة وللإعداد لعقد قمة أخرى قد تلتئم في فلسطين.
من المؤسف أن ينعقد مثل هذا المؤتمر، الذي يبدو مؤتمرا مهما ولافتا، ونحن لم نسمع عنه من قبل ولا نعرف عن دواعي انعقاده وتفاصيل من حضر من رؤساء الكنائس الأمريكية وغيرهم من المشاركين، فرؤساء الكنائس المحلية العرب يشكلون حضورا وازنا من شأنه أن يبعث برسائل مهمة إلى رعايا تلك الكنائس في الولايات المتحدة، وحتى إلى الفضاءات الأوسع، مع أنني، في هذه الجزئية، كنت أوثر أن أرى بين المشاركين كهنة عربا أو شخصيات وطنية تمثيلية عربية تمثل الوجود المسيحي العربي في أراضي الـ 48، خاصة الأورثوذكسي.
نحن في الشرق نعرف أن تشكيل لجان متابعة قد يكون أضمن الطرق لخنق قضية ما وأقصرها، وأقول ذلك خاشيا، فانعقاد مثل هذا المؤتمر، في هذه الظروف العالمية القاسية، يشكل رافعةً إن صينت، بوعي ودراية، قد تصبح محطةً لما هو أكبر وأهم في حياة القضية الفلسطينية؛ وعلى جميع الأحوال من شأن هذه اللقاءات، إن أعد لها بشكل مهني ومدروس، أن تزيل طبقةً من ذلك الالتباس العربي العام والسائد، حول تعريف من هو المسيحي/ النصراني، فأكثرية العرب والمسلمين تنظر إلى المسيحيين في العالم وكأنهم عجنوا من الطينة ذاتها وصُبوا في القالب نفسه، فأمريكا كلها ريغان وبوش، وأوروبا كلها ثاتشر، وكل هؤلاء ومعهم جميع النصارى في العالم هم أحفاد ريكاردوس، إفرنجة كافرين وأعداء.
قادة فلسطين لم يقعوا في مطب هذا التعميم، وانتبهوا دوما إلى ضرورة وأهمية مخاطبة العالم والمسيحيين باسم فلسطين العربية، بمسلميها ومسيحييها، ولربما نجد أن الرئيس الراحل ياسر عرفات كان مؤسس هذه المدرسة والأبرع في رسم رؤاها الإنسانية الوطنية، وتوطيدها كنهج كفاحي شامل، لكننا نشهد بعد رحيله أن الرئيس محمود عباس ومعه القيادة الفلسطينية الحالية، يتمسكون بهذه الإستراتيجية ويولونها أهمية لافتة.
قد نفهم أن مرد ذلك الموقف يعود إلى فهم وطني صحيح عند قيادة فلسطين التاريخية، ومفاده بالمختصر: أن ما يُدعى بـ"العالم المسيحي» ما هو إلا كيان متخيل وهمي غير موجود بشكل محدد ومادي وموحد، واكتشفوا كذلك أن واضعي هذه التسمية تعمدوا، في الحقيقة، إلى ترسيخها في ذهنية العالم، هكذا بشكله المطلق، لأن ذلك يخدم سياساتهم ومآربهم، فحكام إسرائيل، على سبيل المثال، يعملون بجهد وبمنهجية وبخفاء وبذكاء، من أجل إقناع العرب والمسلمين بأن كل المسيحيين إخوة وكلهم يعادون العرب ويقفون مع إسرائيل وسياساتها، وفي الوقت نفسه وبالخطورة نفسها يمارسون السياسة مع المسيحيين نفسها، كل المسيحيين، ويحاولون إقناعهم أن العرب هم مسلمون وأن المسلمين هم أشرار وأن المسيحيين كاليهود ضحايا لهؤلاء الأشرار.
من هنا كانت المحافظة على الوجود المسيحي العربي في فلسطين والدول العربية الأخرى يحمل بعدا إستراتيجيا وجوديا تنبهت له القيادات الفلسطينية وأبرزته بشكل لا يقبل المساومة أو التحريف، وإلا كيف نفسر إصرار تلك القيادة على ضرورة تحصين مقاعد برلمانية للمسيحيين ورئاسات مجالس بلدية وقروية، حتى إن كان سكان تلك المناطق المسيحية أقلية واضحة، إنها مصلحة وطنية قومية عليا وسياسة بعيدة النظر وعميقة الإنسانية وكفاحية صادقة.
من شأن قمة أتلانتا ومثيلاتها أن تضرب وتفكك مركبي المعادلة القاتلة الرائجة وتثبت أن المسيحيين ليسوا عالما واحدا، بل عوالم وأتواب، وأن في فلسطين شعبًا عربيا تعود جذور بعضه إلى ناصرة البشارة ومذود بيت لحم وطريق الآلام.
لقد سبقت قمة أتلانتا أحداث مهمة جرت في بعض المحافل والكنائس المسيحية في العالم حين بدأت قياداتها الروحية تخطو بإيجابية نحو الحق الفلسطيني، وفي مشهد يعكس تغييرا واضحا في سياسات تلك الكنائس القديمة حين كانت معظمها في صالح إسرائيل. وربما كان الاحتفال في الفاتيكان الأكثر جذبا لأنظار العالم، حين أعلن البابا فرنسيس الثاني في السابع عشر من مايو المنصرم عن قداسة راهبتين فلسطينيتين: ماري بواردي المولودة في الجليل وماري غطاس المولودة في القدس، وفي رسالة من الفاتيكان تعلن عن حرصه على أبناء فلسطين العرب وعن أهمية فلسطين وقدسية دور أبنائها وبناتها في إشعال نور الحق والعدل الإنساني.
لهذه التطورات أهمية بالغة على مستقبل الحق الفلسطيني، خاصة ونحن نشاهد كيف ينهار العالمان العربي والإسلامي، ولذلك على القيادة الفلسطينية وقيادات الجماهير العربية في البلاد، كل من موقعه، أن تولي هذه المسألة جل اهتماماتها وأن تقدمها إلى رأس أولويات العمل الوطني المنظم، ومن أجل إنجاح ذلك أكرر ما قلته في الماضي: بأن الاعتماد فقط على لجنة رئاسية تعمل وفق رؤى وإمكانيات متواضعة لن يفيَ هذه المهمة حقها ووزنها، وشاهدي على ذلك ما لم نعرفه عن هذه القمة، قبل انعقادها وبعده.
٭ كاتب فلسطيني
جواد بولس