هم ونحن

بقلم: علي الصالح

قبل أيام مررت بعارض صحي بسيط، ذكرني بمناسبة أليمة جدا وهي وفاة شقيقي الأكبر بسبب إهمال طبي في مستشفى قبل حوالي 13 عاما. أعرف أن الأعمار بيد الله ولكن الحديث الشريف يقول "إعقل وتوكل".. أقول، إهمال طبي لأنه بالفعل كان إهمالا طبيا بامتياز.
ولتسليط الأضواء على الفوارق في تعاملهم في الغرب، (أتحدث عن بريطانيا لأنني أعيش فيها) مع المريض بناء على القواعد المهنية والإنسانية والأخلاقية، وتعامل معظم المستشفيات في العالم العربي على أساس العامل المادي فقط. ولتبيان ذلك سأتحدث عن ثلاث تجارب عشتها، الأولى تجربتي بعد العارض الصحي الذي مررت به قبل بضعة أيام.. اتصلت زوجتي بالخط الساخن المباشر للضمان الصحي (حكومي وليس خاصا)، الذي يستخدم لتخفيف الضغط عن أقسام الطوارئ المزدحمة دوما في المستشفيات.
مسؤولية الخط الساخن تشخيص حالة المريض هاتفيا قبل أن يقدم لك النصيحة بالنسبة للخطوة التالية. يستجوبونك لمدة تطول أو تقصر حسب حالتك، عن تاريخك الطبي وعن وضعك الحالي، وبعدها كما قلت يقررون الخطوة التالية.. وعقب عملية استجواب معي طالت لأكثر من نصف ساعة، تقرر إرسال مسعفين للفحص الشخصي قبل أن يقرروا إذا كنت بحاجة لنقلي إلى المستشفى. وحضر ثلاثة منهم، إلى المنزل، وباشروا على الفور الفحوصات اللازمة وفقا للأجوبة التي أقدمها لهم عن العارض الصحي الذي كان ارتفاعا حادا في نبضات القلب..
لم يطلب مني المسعفون مقدما ماليا ولم يسألوني إن كنت متجنسا ولم يسألوني عن بطاقة هوية أو بطاقة الضمان الصحي، فهذه ليست من مسؤولياتهم، بل تعاملوا معي بما يحتم عليهم واجبهم الإنساني والأخلاقي والمهني كمريض فقط.. وفي نهاية المطاف تقرر نقلي إلى المستشفى.
وفي المستشفى/ قسم الطوارئ اجريت مجددا الفحوصات الشاملة والكاملة من تخطيط ورسم للقلب لقياس الضغط ودقات القلب التي تسببت بالمشكلة إلى مستوى الأوكسجين في الدم… يعني فحصا كاملا وشاملا من قبل ممرضات، قبل ان يحضر الطبيب لمتابعة الحالة، الذي لم يجد إلا تفسيرا واحدا للحالة التي عشتها وهي ارتفاع حاد، اي حوالي الضعف في دقات القلب، سوى التأثيرات الجانبية لدواء ضغط الدم، عندها سمح لي بالعودة الى المنزل مع التأكيد على ضرورة مراجعة طبيبي العام في أقرب فرصة، مع النصيحة بمراقبة دقات القلب، والعودة الى المستشفى في حال حصل اي تطور.
وفي غضون ثلاثة أيام وتحديدا بعد عطلة نهاية الاسبوع، زرت طبيبي العام وهو من جنوب شرق آسيا، الذي لم ير أي مسبب لحالتي سوى دواء ضغط الدم الذي اتعاطاه، ونصحني بزيارة اخصائي الدم المسؤول عن حالتي وهو شاب عراقي ذو خلق رفيع ومهني من الدرجة الأولى… يذكر أن الاطباء العرب كثر في المستشفيات البريطانية…
غادرت العيادة، وما هي الا دقائق حتى فاجأني الطبيب بالاتصال على هاتفي المحمول، ليقول إنه قرأ تقرير المستشفى بالتفصيل ووجد ان الفحص الوحيد الذي لم يجروه هو فحص الغدة الدرقية، التي قد تكون مسببا لارتفاع دقات القلب. طلب مني العودة الى العيادة للحصول على طلب فحص الدم. ونصحني أيضا بان ازور اخصائي الدم.. وبالاخلاقية والمهنية نفسها تعامل معي اخصائي الدم الذي زاد اهتمامه لكوننا أبناء جلدة واحدة.. وقدم نصحيته الطبية وأصر على لقائي بعد أيام لمتابعة الحالة.
آسف على الإطالة اللازمة..
في المقابل وقبل حوالي13 عاما أدخل شقيقي الأكبر، رحمه الله، الى مستشفى الملك عبد الله في مدينة أربد في الأردن، وهو مستشفى خاص، يعاني من نزيف داخلي. واضطررت للسفر مهرولا لأكون إلى جانبه. وبسبب عدم وجود طبيب مختص في ذاك المستشفى يمكن أن يجري عملية لحم الشرايين لوقف النزيف قررنا نقله إلى عمان وإلى مدينة الحسين الطبية ذات الصيت.
وقبل أن ينقل إلى سيارة الإسعاف التي ستقله إلى عمان، طلب دفع "اجرتها". ولدى وصولنا إلى مدينة الحسين الطبية وكانت الساعة في حدود الحادية عشرة صباحا وضع شقيقي، الذي يعيش على تغذية التنقيط، في غرفة جانبية ولم تقدم له أي خدمات طبية على الاطلاق.. وعندما سألنا عن السبب قالوا عليكم أن تدفعوا التأمين وقدره 250 دينارا (يتوقعون من آل المريض ان تكون جيوبهم مليئة بالنقود).. وبعد دفع المبلغ المطلوب رغم أنه مؤمن عليه صحيا، نقلناه نحن وليس الممرضين او الممرضات الى قاعة المرضى.. مرت ساعات من دون ان يوصلوه بنظام التغذية (لا يستطيع تناول الطعام العادي) رغم الاحتجاحات على هذا التصرف غير الانساني.. وعند حوالي الساعة الرابعة من بعد الظهر أي بعد حوالي أكثر من5 ساعات تفضلوا بوصله بنظام التغذية بالتنقيط بعد احتجاجات وصراخ. ووعدنا بأن تعمل له عملية لحم الشرايين في صباح اليوم التالي. ولم تكن هذه المعاملة اللاإنسانية واللامهنية هي نهاية المطاف. فقد تعرض شقيقي خلال الليل لنوبة جديدة من النزيف ولم يحرك الممرضون والممرضات ساكنا، بل طلبوا من ابنه الذي كان يرافقه الليل بالعناية به. وأكثر من ذلك فان الطبيب الموعود لم يحضر في صباح اليوم التالي. مر يوم كامل لم يكشف عليه طبيب مختص.
وفي عصر اليوم الثاني قالوا إن طبيبا جاء لفحصه. وبدلا من أن يتولى ممرضون عملية نقله وهو على السرير الى الدور الذي يوجد فيه الطبيب، طلب منا نحن اهل المريض ان نقوم بالمهمة. وهو ما حصل. وبعد أن انهى الطبيب فحصه وتشخيصه كان لا بد من إعادته الى سريره في الدور الأرضي.
هنا وقع ما لا يمكن ان يتصوره عقل.. هممنا نحن اهل المريض الى نقله على السرير الذي فحص عليه.. فجاءت اللطمة الحقيقية.. فقد طلب منا ان ندفع تأمينا قدره ألف دينار على السرير لضمان اعادته.. اولا السرير وكامل الغرفة بمحتوياتها لا يساويان الف دينار.. ثانيا من يمكن ان يحمل في جيبه هذا المبلغ الكبير خاصة في الاردن، فلا نحن تجار ولا من الاثرياء.. وعندما احتد الامر، وافقوا على استخدام السرير لنقل المريض واعادته على الفور مقابل حجز بطاقتي هوية احد الابناء وابن شقيقته… غادرناه على امل العودة اليه لاحقا.. بعد الظهر ساءت حالته وانخفض نبضه.. ليصلنا الخبر المؤلم.. شقيقكم فارق الحياة… شكرا لخدماتكم وعنايتكم ورعايتكم لمرضاكم..
وهذا يذكرني أيضا بتجربة والد صديق كان في زيارة إلى لندن.. فقد أصيب والد الصديق بما أصيب به شقيقي من نزيف داخلي في المريء. فاتصل الصديق بالطوارئ.. وحتى لا أدخل في التفاصيل، أجريت له الإسعافات الأولية قبل نقله إلى المستشفى ليخضع لعملية لحم الشرايين في اليوم التالي. لم يسأل المريض وهو الزائر الذي ليس من حقه العلاج في المستشفيات العامة، عن أصله ولا فصله ولم يطلب منه دفع تأمين أو أجرة سيارة الإسعاف أو اعطاء اي تفاصيل سوى اسمه وتاريخه الطبي، لينقل معززا مكرما إلى المستشفى محاطا بالعناية الطبية اللازمة، وإلى قسم الطوارئ على الفور لمزيد من الفحوصات والعلاجات.. وهل تعلم عزيزي القارئ ان المريض لم يسأل ان كانت لديه بطاقة تأمين صحي حكومي الا قبيل خروجه من المستشفى بعد قضاء 21 يوما بالتمام والكمال شفي خلالها وتعافى.. وسمح له بالخروج من المستشفى ولم يشترطوا عليه أولا دفع ثمن العلاج والاقامة.. وبعد ست اشهر وصلت من المستشفى فاتورة العلاج الى اهل المريض.. نعم نصف سنة.. وأعطوا مهلة لدفعها.
هكذا يعامل "المشركون" المرضى بغض النظر عن جنسياتهم وأعراقهم ولون جلدتهم.. مهمة الممرض او الممرضة السهر على راحة مرضاهم ومهمة الطبيب ان يقدم العلاج للمريض اولا وقبل كل شيء فهذا ما تحتمه عليه اخلاقيات المهنة… فطوبى لهؤلاء الذين يضعون الإنسان قبل الربح والفائدة نصب اعينهم، ولا يسعني إلا ان أقول هدى الله من يضع الربح وجني المال قبل القيم الإنسانية والمهنية والأخلاقية. صحيح المقارنة قد تكون غير منصفة ولا عادلة، ولا احاول ذلك بل ان الغرض تسليط الاضواء على المعايير الإنسانية والمهنية والأخلاقية في التعامل والفوارق بينهم هم المشركون ونحن المسلمون.. للفائدة العامة…

٭ كاتب فلسطيني من أسرة "القدس العربي"