لكل جيوش العالم عقيدة عسكرية من المفترض أن تنبع أصلا من الاحتياجات الوطنية القائمة على مبدأ الذود عن الوطن والشعب وحمايتهما من الأعداء ومطامع الغير لصالح الوطن نفسه وناسه ومثل هذا القول ينطبق كليا على الدول الوطنية الصغيرة والتي تهتم بحماية حدودها المباشرة وشعبها ومصالحهم الداخلية وثروات الشعب على أرضه, مثل تلك العقيدة لا وجود لها في عرف الدول الاستعمارية أو حتى الدول الصناعية الكبرى بما في ذلك دول من المفترض أنها كانت ضحية الاستعمار كألمانيا واليابان وان حاولت أن تنفي عن نفسها صفة الاستعمار فروسيا وريثة الاتحاد السوفيتي مثلا والذي ظل لعقود يحمل الفكر الذي صاغه لينين دفاعا عن الثورة البروليتارية منذ مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي في العام 1919 والذي نص "يؤدي ضغط البروليتاريا المتزايد و انتصاراتها على وجه الخصوص في بعض البلاد الى زيادة مقاومة الاستغلاليين و يدفعهم نحو اشكال جديدة من التجمعات الراسمالية العالمية (عصبة الامم ...الخ) التي تنظم على المستوى العالمي استغلال شعوب الكرة الارضية و تحاول بالتالي قبل كل شيء لجم الحركة العمالية الثورية العالمية. و يؤدي هذا بصورة حتمية الى حروب اهلية في العديد من البلدان ترافقها حروب ثورية في البلدان البروليتارية التي تدافع عن نفسها و عند الشعوب المسحوقة المنتفضة ضد القوى الامبريالية. في مثل هذه الظروف لا تصبح شعارات السلام مثل نزع السلاح العالمي في ظل النظام الراسمالي و محاكم التحكيم ...الخ طوباوية رجعية و حسب بل تخدع العمال لنزع سلاحهم و ابعادهم عن مهمتهم الرامية الى تجريد الاستغلاليين من السلاح" وهو ما تغير كثيرا منذ ما بعد الحرب الاستعمارية الثانية وتحول الحزب الى حاكم وحيد بديلا عن الطبقة وما الت اليه الاوضاع في روسيا الاتحادية بعد غياب الاتحاد السوفييتي عن ساحة الصراع العالمي مسلما ادوات الثورة لورثة لا ينتمون لها في واقع الامر بل لمصالح طبقاتهم الجديدة ولذا تحدثت العقيدة العسكرية للجيش الروسي عن مصالح روسيا وحلفائها وأماكن نفوذها وأشكال الصراع واحتمالاتها زع حلف الناتو محددة احتمالات الصراع بالاقتراب من مناطق النفوذ او الدول الحليفة كما اسنتها عقيدة الجيش الروسي بقيادة بوتين الذي اقرها في العام الماضي 2015 ناسخا كليا عقيدة الثورة والدفاع عن الفقراء والشعوب المضطهدة عبر العالم ومحددا سياسة روسيا الدفاعية بالدفاع عن مصالحها عبر البحار في مواجهة حلف الناتو وحلفاءه وعقيدة بوتين تتحدث بوضوح عن الردع النووي والاستعداد لاستخدام كافة اشكال وأنواع الاسلحة اذا تعرضت مصالح روسيا وحلفائها للخطر, في يحن حاولت فرنسا في العام 2013 الابتعاد عن الانخراط في المشروع الامريكي والعودة الى عقيدة ديغول الدفاعية بين قوسين والتي حددت ايضا كما روسيا نطاق المصالح الوطنية الجغرافي خارج حدودها طبعا بما في ذلك دول المغرب العربي كمناطق نفوذ فرنسية تاريخيا.
عقيدة جيش الاحتلال الصهيوني اكثر تعقيدا كونها تحاول التركيز على الصفة الدفاعية لجيشها وهي تتحدث بوضوح عن صعوبة الهجوم والانتقال الى اراضي الغير مباشرة لما لذلك من تأثيرات صعبة قد تفضي الى خسائر كبيرة فكان واضحا لجوء اسرائيل الى اسلحة الردع الاخطر وهي ترسانتها النووية واستخدامه لنظام استباق الضربة ومفاجئة الاعداء والضربات التدميرية القاسية الاستباقية والمفاجئة والخاطفة لتضمن بذلك اقصى اضرار ممكنة في البلدان المحيطة واقل ضرر ممكن في صفوفها وهي عقيدة تتلاقى مع اخطر العقائد المتمثلة بالعقيدة الامريكية التي تم انباتها اصلا في جذور المؤسسين لأمريكا الجديدة التي الغت امة بكاملها بقوة السلاح ولا زالت نفس الفكرة قائمة لدى اولئك الذين اعتبروا سكان البلاد الامنين اعداء وجعلوا من حملة الموت القادمين ما خلف البحار دعاة سلام ولذا فان عقيدة الجيش الامريكي المعلنة تركز ان لا اعداء للولايات المتحدة وكل ما في الامر ان جيش الولايات المتحدة يحارب لأجل عالم الغد الحر والديمقراطي وهو لذلك يحدد اهدافه المعلنة بمحاربة " الدول الرجعية " حسب تعبير العقيدة العسكرية الامريكية الجديدة ويضرب روسيا مثلا لذلك و" والإرهاب " ويضرب داعش مثلا لذلك فالمحورين المعلنين اذن كأعداء ليس لأمريكا ولكن للحرية والديمقراطية هما روسيا وما تمثله معها كوريا الشمالية والصين الى حد ما ثم الارهاب ممثلا بداعش ومن حولها من منظمات كالقاعدة ودول كإيران وسوريا وبلا خجل تجعل امريكا من داعش ارهابية بينما تحالف وتشارك تنظيمات اخرى لمحاربة من يشقون عصا الطاعة فهي مع حكومة افغانستان ضد طالبان ومع التنظيمات الدينية في سوريا ضد النظام.
النظريات العسكرية الامبريالية يتم توريثها من بلد استعماري لآخر ولعل اخطر المفكرين العسكريين نظريا هو المفكر الفرنسي اليهودي التونسي اصلا ديفيد غالولا والتي اعتمد فيها على ما ورد في كتاب الحرب المعاصرة للفرنسي روجي ترنكيي والذي يتحدث عن مراحل مكافحة الثورة او التمرد كما يسميها محددا اياها بعدة مراحل تتمثل في عزل المدن وإغلاقها بسياج مثلا لمراقبة المنافذ اليها ومنها والتحكم بالحركة ومن ثم تقطيع اوصالها الى احياء وعزلها عن بعضها البعض ليسهل السيطرة عليها تنظيم حملات دهم واستجوابات واعتقالات جماعية لا حدود لها, احصاء الناس والمنازل وإعطائهم بطاقات شخصية كإثبات لوجودهم, انشاء خلايا للوشاية والتخابر من الخونة, تحويل كل عمل نضالي الى جريمة بتسميات مثل اجرام وتخريب وإرهاب وتسمية المناضلين بمجرمين وإرهابيين وشرذمة وضالين او خارجين عن القانون, تصفية القادة, وهنا يمكن ملاحظة ان ما نقله غالولا وأخذه عنه العسكريين الامريكيين هو نفسه ما يستخدمه جيش الاحتلال الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني نصا وروحا.
عقلية غالولا لتدمير الثورة كما اوردها نبيل نايلي الباحث بالفكر الاستراتيجي في السوربون فهو يورد بالنص ما يلي " ينصح غالولا بالتالي : تدمير المتمردين او شرذمتهم, نشر قوات ثابتة وأخرى متنقلة بالقدر الكافي لتامين منطقة ( خضراء ) ( محررة ) للحيلولة دون عودة فلول التمرد, انشاء حلقات تواصل مع الاهالي مع مراقبة حركتهم وضبطها, اعطاء الانطباع بأن القوات الغازية هي ضامن الأمن الوحيد لكسب عقول الناس وقلوبهم, اجتثاث التنظيم السري للمتمردين باستثمار المادة التي يوفرها العملاء على ان تكون الضربة خاطفة حتى لا تؤلب من ( ألفت ) قلوبهم, تنظيم انتخابات ( حرة ) لتعيين حكومة محلية مؤقتة, اشراك العنصر النسائي و ( تحريره من سلطة الرجل , اختبار مدى أهلية القيادة المحلية بمنحها بعض المهام, فرز العناصر وتحييد عديمي الكفاءة والفاسدين والمحافظة على سلامة من اثبتوا ولائهم دون السقوط في الوصاية, ضم القادة الذين تمت تزكيتهم لحركة أو تنظيم أو حزب مع التحذير من السقوط في هذا الامتحان لأن حركة التمرد تتربص, ضم او استئصال فلول التمرد خلال الاشتباك الأخير للقضاء على النواة الصلبة بمشاركة الأهالي انفسهم وقوات محلية تم تدريبها للغرض, سواء بقوة السلاح أو من خلال ( سلام الشجعان ) ( والتعبير لغالولا ) وأخيرا انجاح اعادة الاعمار لتأليف قلوب أكثر عدد ممكن من الأهالي وتنفيرهم من الفعل المقاوم ".
يقول دينيس غورملي الباحث بجامعة بترسبورغ في كتابه " عدوى الصواريخ " ما نصه " إن الولايات المتحدة تضع معيارا دوليا جديدا وهو امتلاك الحق في استباق ضرب من تشك أنهم يخططون لهجمات ضدها.. وأكثر ما أخشاه هو تقليد صنيعها " وهذا يعني ان الولايات المتحدة هي من تؤسس للإرهاب الدولي عبر تهديدها المباشر لكل بقاع الارض ومع ذلك فان العقيدة العسكرية الامريكية متعددة الجوانب والاتجاهات فهم يجلبون كل شيء لديهم لصالح العسكرة والسيطرة, في كتابه رقعة الشطرنج الكبرى يقول بريجينسكي والذي شغل منصب مستشار الامن القومي الامريكي " كانت السيطرة الثقافية، ولا زالت إحدى سمات القوة العالمية الأميركية التي لم تقدر حـق قدرها. ومهما فكر المرء في القيم الجمالية، فإن الثقافة الشاملة فـي أميركـا تمـارس إغـراء مغناطيسياً، وخاصة بالنسبة إلى شبان العالم. ويمكن أن يكون إغراؤها نابعاً من نوعية مـذهب المتعة التي تحفل به أسلوب الحياة الأميركية، ولكن إغراءها العالمي لا يمكن إنكـاره. فبـرامج التلفزيون والأفلام الأميركية تحتل نحو ثلاثة أربـاع الـسوق العالميـة. والموسـيقى الـشعبية الأميركية تسيطر، هي الأخرى، على نحو مماثل، بينما نجد أيضاً أن العالم كله يقلد، وعلى نحو متزايد، الهوايات أو البدع والموديلات (جمع موديل أو موضة)، وعادات الطعام، وحتى طريقة ارتداء الملابس، والملابس ذاتها. ثم إن لغة الانترنيت هي إنكليزية، كما أن النسبة الأكبـر مـن الأحاديث العالمية في الحواسب تأتي أيضاً من أميركا،مما يؤثر في محتوى المحادثات العالميـة. وأخيرا، فقد أصبحت أميركا المكان الذي يحج إليه الساعون إلى الثقافة المتقدمة، علماً أن ثمـة نصف مليون طالب أجنبي تقريباً يتدفقون إلى الولايات المتحدة، ولا يعود الكثيرون مـنهم إلـى أوطانهم. ويمكن أن نجد خريجي الجامعات الأميركية في كل مكتب تقريباً في كل القارات " وهذا يعني ان الولايات المتحدة تستثمر في كل شيء من اجل احكام سيطرتها وأنها تنجح في استخدام اشاعة ثقافتها لإشاعة القناعة بها وبالتالي الرضوخ لها الى امد طويل لا يرى الفكر الامبريالي الامريكي لها نهاية على الاطلاق.
الفكر الامبريالي الامريكي يقاد يقترب من فكرة الغاء العالم لصالح توحيده عن بعد تحت راية الغموض والمتعة والدهشة التي تحاول امريكا ارباك الفكر الانساني بهما بما يسمى بنظام العولمة الغامض اصلا والذي اخترعه الفكر الامريكي كواحدة من ادوات الغموض التي تشبه ما تصدره امريكا بأفلامها للعالم وهي من خلال قراءتها للتاريخ البعيد والعميق للإمبراطوريات عبر التاريخ تعتقد ان ما يميزها عن غيرها هو انعدام اللون او الجنس او حتى القومية عنها فهي خليط من كل بقاع الارض ومن يحضر اليها دارسا فإما ان يستقر بها او يعود الى بلاده سفيرا لثقافتها هناك وهي لا تتحدث ابدا بلغتها عن سيادة الجنس كما فعلت الامبراطوريات السابقة ولا عن الحكم المباشر بل تطور ادواتها في الخارج وتتحدث عن سيادة الفكرة كالحرية والديمقراطية والعالم الحر والعالم المثالي وتقديم النموذج الفردي والتشكيل المتنوع والمختلف بأصوله ونماذجه ومصادرة المنتج للفرد فالقوة العسكرية هنا لا تقدم نظريا على انها مشروع قوة لخدمة جنس او طبقة بل مشروع لخدمة فكرة عظيمة كالديمقراطية والسلام والتسامح والمساواة وهو ما يغري الاجيال القادمة والشباب وشعوب العالم بالاستماع جيدا لمثل ذلك وكما ان الجيش الامريكي ينتشر في كل بقاع الارض كجيش حامي لبعض هذه الدول او مساند لها كما فعل في العراق وأفغانستان فان الاسطول الاخطر هو اسطول الثقافة الامريكية كما اشار بريجينسكي والذي يجتاح عقول ومشاعر الشباب والأجيال القادمة بتحويل امريكا في اذهانهم الى النموذج الحلم مما يسهل على امبراطورية الاخرين لغة ان تعيش كونها لا تقدم نفسها على انها الجنس الاسمى او الارقى بل على انها واحدة من كل وان الاخرين حلفاء لا اتباع مما يسهل عليها ان تستخدمهم كأذرع وطنية لها كل في بلده ويزيل عن كاهلها كل مخاطر السيطرة المباشرة او الاحتلال المباشر.
تحاول امريكا ان تغطي استغوالها بقفاز ناعم وخطر في آن معا فهي الى جانب خطابها الجميل والبراق عن الديمقراطية والعالم الحر ومعادة الارهاب والتطرف انما تستخدم اذرعها في كل بلد ليحكمون بوجوههم الوطنية متلافية الوجه البشع للاحتلال المباشر فلماذا ستقدم جيوشها للموت ولماذا تخسر صورتها وتدمر شعاراتها ما دام هناك من هو مستعد ليكون وجهها في بلده لتختفي من خلفه وليحقق لها كل مصالحه تحت شعارات التحالف والمصالح المشتركة فأمريكا اذن تحتلنا بنا وهو ارخص وأفضل احتلال ممكن, احتلال يكون ويأخذ منك كل ما تريد دون ان تستطيع انت أن تقول ذلك, أو أن عليك ان تخوض حربا وطنية أولا لتقنع من تطبعوا برؤيتها وفكرها انها تحتل البلد بأبناء البلد.
بقلم
عدنان الصباح