الثورة هي قرار جماعي يأتي كنتاج لحالة من المعاناة لم يعد الجميع قادر على احتمالها، ولذا يقررون اللجوء إلى الانقلاب على الوضع السائد واضعين نصب أعينهم الهدف المنشود الذي يحقق طموحاتهم وآمالهم وأحلامهم بغد أفضل، والثورة ردة فعل تلقائية ميكانيكية في وجه الظلم الواقع على الذات الجماعية لصالح كرامتها وحريتها، وهي إذن قراءة حية للموضوع مليئة بتأثير التزاوج الحي مع الذات فلا وجود لثورة موضوعية أبدا، ولا تحكم أدواتها وبرامجها كلاسيكيات ونماذج جاهزة، بل إن التأثيرات الانفعالية لحجم المعاناة هي التي عادة ما تقود بالذات الجماعية للانتفاض على واقع الحال بهدف إنجاز التغيير وتحقيق الأهداف الجماعية، وأي انتقاص من جماعية الانطلاق وجماعية الهدف لا بد وان ينتهي بفعل الثورة إلى الدمار الكلي الشامل، بمعنى أن وصول البعض إلى حالة تمكنهم من قبول واقع الحال كأفراد بعيدا عن إنجاز الهدف لصالح المجموع العام يقود بالثورة إلى خارج سكتها ويخلق حال من التناقض الداخلي بين مصالح جموع المناضلين أو مجموع الشعب ومصالح فئة قليلة أنجزت أهدافها الذاتية الصغيرة وشكلت مجموعة من المصالح بات التنازل عنها أمر غير ممكن وبالتالي فان المصلحة الحقيقية لهؤلاء لم تعد مرتبطة بمصالح المجموع أبدا.
والثورة فعل أداء ديناميكي حي مبدع ومتواصل مع ذاته الجماعية من خلال إدراك حي لاحتياجات المجموع، وهي مسيرة من المفترض أنها لا تعرف التوقف إلا في المحطة النهائية بعيدا عن قدرات وإمكانيات شخوصها كأفراد وإنما من خلال تماسكها الجماعي وقدرتها على الانطلاق المتواصل بتجدد نحو الهدف، وهي إن تمكنت بهذا الشكل أو ذاك من تحقيق بعض الخطوات الصغيرة لصالح الهدف العام فمن المفترض أن لا تعطي للإنجاز الجزئي الأولوية وان لا تعتبر أن حماية الإنجاز أهم من الوصول إلى الهدف والا عاشت في حالة من مراوحة المكان لا بد أن يتحول إلى التراجع ما دام هناك عدو اقوي قادر على سحب هذا الإنجاز أو تحويله إلى شكل من أشكال نهاية المطاف.
والثورة رغم صفتها الجماعية وصبغتها العامة إلا أنها في نفس الوقت تعبير عن طموحات وتطلعات الفرد والا فلن يكون هناك أي مبرر للأفراد للانتظام التنفيذي في أنشطتها أيا كانت عنفية أو سلمية، وهي بالتالي تفقد قواها المحركة والفاعلة وبالتالي لا تعود تقوم بدورها كمعبر عن طموحات المجموع بأفراده بل عن مصالح فئة محددة ومنعزلة عن الجماعة وبذا فان الثورة أيا كانت أهدافها وطنية عامة أم طبقية اجتماعية لا بد وان تأخذ مصالح وطموحات الناس وكرامتهم في حسبانها خلال مسيرتها فالطبقة هي ناسها والوطن هم ناسه ولا قيمة لوطن دون ناسه، فنحن لا نسعى لتحرير فلسطين الأرض دوننا والا ما قيمتها إن نحن فقدنا كرامتنا وحريتنا قبيل الوصول إليها أو حتى بعد تحريرها، فالوطن دون حرية مواطنه وكرامته سخيف وهو اقرب إلى السجن من الوطن، الوطن هو البيت وهو رمز كرامة وحرية وعزة، لا وسيلة سطوة وسلطة قسرية بيد البعض ضد إرادة وطموحات ومصالح المجموع بأفراده، فأي سلوك أو عمل يؤدي بالثورة للتعارض مع جمهورها، ناسها، مادة كفاحها، ومادة هدفها في ذات الوقت يؤدي بها إلى الذبول والانتهاء تدريجيا.
نحن في الثورة الفلسطينية اختلفنا أم اتفقنا حول انحاز السلطة الفلسطينية، فان الحقيقة انه كان هناك مع بدايات اوسلو ما هو جديد على الأرض وان هناك خطوة، أو شكل ولو جنيني من أشكال ممارسة السلطة ولو كعمل إداري لقضايا الشعب والوطن، والفرق كبير إدارة العمل الثوري والإدارة اليومية لقضايا الناس وأمور حياتهم اليومية ولكننا بدل أن نمنع الخلط بين الثورة والسلطة لصالح كليهما اندفعنا جميعا للالتهاء بجنينية السلطة رغم كل ما تعانيه هذه السلطة من انقلاب إسرائيلي عليها وعلى وجودها، القوى المشاركة في السلطة انكفأت إلى الداخل وأعطت للسلطة الأولوية المطلقة وهي لم تستطع استيعاب كل جمهورها ولذا شكلت في داخلها حالة من انعدام الرضا وبدا وكأن الجميع بحاجة لتحقيق إنجاز فردي سريع بعيدا عن أية أهداف عامة أخرى وبدا الانتظام الوظيفي الهدف الرئيس للجميع وقد انتقلت عدوى العيش والكسب السهل السريع من الوظائف إلى باقي الفصائل التي باتت ملزمة بإيجاد نظام وظيفي أو السعي لدى السلطة لتوظيف اكبر عدد ممكن من كوادرها رغم شعارها العام الرافض.
في بناء السلطة لم نحاول أن نفصل بين الأهداف التي لازالت قائمة بهدف التحرير والاستقلال وضرورة مواصلة الكفاح وبين أهمية أنماط الإدارة الناجحة لقضايا الناس اليومية في الصحة والزراعة والتربية والتعليم وما شابه وبدل أن نأتـي بالإداريين والمهنيين للوظائف الإدارية حولنا جسم الثورة العام للقيام بهذه المهمة مع إدراكنا انه غير مؤهل لذلك، وبذا ساهمنا بوعي أم بغير وعي بإدخال الثورة والسلطة معا في أزمة أداء، فالثوري الذي حمل على عاتقه الفعل الثوري طوال عقود وجد نفسه فجأة وبدون أي تحضير يمارس الوظيفة بكل روتينها وبيروقراطيتها، وهو غير قادر على التخلص من عقلية المناضل ولا يملك مقومات الإداري الناجح، وظهر شعور بالغبن بين من حقق طموحه الشخصي بوظيفة وراتب ومميزات وبين من ظل مطالبا بمواصلة العمل الحزبي والتنظيمي لصالح استمرار الآخر في وظيفته وامتيازاته وبذا لم نقدم نموذج إدارة ناجح للعالم يؤهلنا للقول أننا قادرين على إدارة أمور شعبنا بنجاح والانتقال من إنجاز إلى آخر ولم نتمكن من الحفاظ على جسم ثورتنا ونشاطها.
واحدة من الأمثلة على طريقة الأداء العام التي عشناها خلال السنوات السابقة قبل أو خلال الانتفاضة السابقة كانت تتمثل في آلية التعاطي مع الأوضاع الصحية أو التعليمية، فأنت على سبيل المثال إذا كنت بحاجة إلى علاج خاص خارج الوطن أو كنت بحاجة إلى دفع الأقساط التعليمية لتعليم أبناءك فان عليك البحث عمن ترجوه أو تتوسط لديه اضعف الإيمان ليحصل لك على الموافقة، مع أن ما سيدفعه هو حق لك ومن أموالك فهو إما من أموال دافعي الضرائب أو عائدات المساعدات المقدمة لشعبنا وليس لحفنة من الصفوة، فكيف يمكن لمواطن ينتظر أياما أو شهورا ليحصل على موافقة ما للعلاج، ثم ليحصل على مصادقة الصرف، ثم ليضمن تحويلها إلى المالية، ثم ليضمن كتابة الشيك، ثم التوقيع إلى أن تأتي اللحظة لاستلامه وقد ينتظر كذلك في البنك لحين وجود الأموال للصرف وهو بين هذا وذاك يقبل أيادي أو يدفع فاتورة انتخابية لهذا الشخص أو ذاك مقابل أن يحصل له على حقه من أمواله، كيف يمكن أن نطالب هذا المواطن بالإخلاص لوطن يعامله بهذه الطريقة، وطن تملك الحرية فيه حفنه ويخضع المجموع للظلم مرتين مرة من أعداء الوطن ومرة من دعاته. .
بهذه الحال دخلنا إلى الانتفاضة الثانية، وها نحن نصل اليوم إلى حالة عجيبة، فما الذي نعاني منه داخليا هذه الأيام، انه باختصار حالة الانكسار، فحين بدأت انتفاضتنا أعلنا أنها انتفاضة الأقصى والبعض أطلق عليها انتفاضة الاستقلال، بل وتعهدت بيانات الفصائل مجتمعة ومنفصلة بعدم التوقف قبل إنجاز الاستقلال وكنس المحتلين، واليوم بعد آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين وسائر أنواع الكوارث الاجتماعية والاقتصادية نحلم بالعودة إلى مربعنا الأول بكل خسائرنا، الانتفاضة الحالية كان من المفترض أن تكون مختلفة جذريا عن الانتفاضة الأولى، فنحن على أرضنا وكل خبرات وتجارب قيادات الثورة الفلسطينية موجودة على الأرض وليست في بيروت أو تونس أو عمان، فهل كان لذلك أي تأثير ايجابي، العكس هو الصحيح، فبدل أن تشكل هذه القيادات عامل إنضاج للعمل الثوري شكلت عامل إحباط فهي جلست على الجدار مع شعارها السياسي الملتزم بقواعد اللعبة الدولية وتابعت نظام عيش ورفاهية شكلت حالة من النقمة لدى جموع الشعب ومناضليه في المقدمة. .
كم من الممكن ان ننتظر حتى نضع انفسنا وقضيتنا وشعبنا على سكة القطار الصحيحة وبالاتجاه الصحيح، بمعنى كم من الوقت علينا ان ننتظر حتى ننتهي من حالة المجاملة التي نعيشها مع الذات والتي نسعد بتقبلها من الآخرين، فنحن تعودنا حالة النرجسية المفرطة مع ذاتنا منذ الانطلاقة الثانية للثورة الفلسطينية المعاصرة بعد هزيمة عام 1967 م وظهور الثورة الفلسطينية كبديل حي مقاوم لحالة الانكسار والهزيمة التي مني بها النظام الرسمي العربي، ويعرف كل من عاش ظروف ما بعد حرب حزيران وانتصار الكرامة، الخطر الذي مثلته انكفاءة الثورة الفلسطينية الى الداخل الاردني وانشغالها بقضايا الناس وقفزها فوق قوانين بلد آخر، ذلك كان تكرارا لتجربة ثورة 1936 حين انشغلت الثوة بقضايا الناس بشكل ارتجالي وتحول السلاح الذي من المفترض ان تكون مهمته حماية الشعب في جه اعداءه الى سلاح يشكل حالة تخلط بين الثورة والفوضى بين المقاومة والاستزلام، بين الشللية والمقاومة للمحتل، ومثل ذلك تكرر في الماضي القريب من خلال الانتفاضة الأولى وها هو يعود مرة اخرى في الانتفاضة الحالية، في كل مرة كان الفشل في الانتصار يعود مأساويا على الشعب وكأن اولئك الذين لم يتمكنوا من دحر المحتلين وحماية الشعب يحاولون اثبات رجولتهم وثوريتهم في مواجهة الشعب.
باختصار شديد نحن بحاجة ماسة إلى فتح شبابيك بيتنا للريح لنفض كل الغبار الذي تراكم طوال عقود، نحن بحاجة إلى فتح كل ملفاتنا وقراءة واقع الحال بكل عقلانية ومن منطلق علمي بعيدا عن مجاملة الذات وخلق أنماط النجاحات الوهمية لتمجيد ذات تغرق في الفشل في كل خطوة جديدة، إن ما نحتاجه اليوم وبكل صراحة هو ثورة نقد ذاتي داخلي لاداءنا في الثورة ( ان وجدت ) ومنظمة التحرير وفي كل فصيل من فصائلها على حدة, مع اهمية استعادة ما كان في الثورة والمنظمة باعادة هيكلتها وبناءها على اسس ديقراطية ناظمة للجميع وبعيدا عن الاقصاء والاستثناء وبنفس الوقت الانتقال إلى ثورة في الأداء الإداري للسلطة يعطي المهنية دورها الحقيقي وينجز الفصل التام بين الثورة وقواها والسلطة ومؤسساتها الإدارية والمهنية مع الاحتفاظ بحق الرقابة والتوجيه للسلطة من قبل منظمة التحرير، لا أن تذوب المنظمة في السلطة، والا فان الفشل والتراجع سيبقى حليفنا وباستمرار.
بقلم
عدنان الصباح