جيلعاد شاليط في دائرة الضوء أبداً

بقلم: مصطفى يوسف اللداوي

يبدو أن قدر جيلعاد شاليط أن يكون مشهوراً إلى الأبد، وأن تحفظ الأجيال الإسرائيلية اسمه ورسمه، وأن تعرف قصته وتحكي حكايته على مدى الزمن، راهناً ومستقبلاً، لدى العسكر والأمن، وعند الخاصة والعامة، وفي فلسطين المحتلة وخارجها، فيروي بعضهم ما حدث له درساً وعبرة، وتجربةً وخبرة، ويتمنون عدم تكرارها مع أحد من جنودهم أو مستوطنيهم، ويقصها آخرون خوفاً وجزعاً، وحزناً وألماً، لما أصابهم من ذلٍ وصغارٍ، وما حل بهم من قهرٍ وإرغامٍ، إذ أجبروا على دفع ما لا يريدون، وأداء ما لا يستطيعون، والتزموا مكرهين تجاه المقاومة بما آلمهم وأوجعهم، ثمناً لتحريره من أسره، وإعادته إلى أهله.
لن تتمكن الأيام مهما مرت، والأحداث مهما تعاقبت، والقوانين مهما تشددت، من نسيان شاليط أو إهمال ذكره، وتجاوز تجربته والتوقف عن الحديث عنه، ونشر صوره والتعليق عليها سلباً أو إيجاباً، حزناً أو نقمةً، تعاطفاً أو تهكماً، إذ ما إن ينسى الإسرائيليون قصته، ويتوقفون عن ذكر حادثة أسره، حتى تعيد المقاومة الفلسطينية قصته من جديد، وتدفعه إلى الواجهة بقوة، عندما تفرج عن بعض صوره، أو تكشف عن جوانب محددة ومدروسة من فترة أسره، والطريقة التي كانوا يتعاملون بها معه، وردود فعله إزاء حراسه والمشرفين على قضيته، وغير ذلك مما يسلط الضوء عليه من جديد.
لا يلقى شاليط تعاطفاً دائماً من قبل مواطنيه، الذين وقفوا معه في محنته، وصبروا معه في أزمته، وضغطوا على حكومة كيانهم للقبول بالصفقة ضماناً لحريته، بعد أن فشلت كل الجهود الأمنية والسياسية والوساطات الدولية في الإفراج عنه، أو تحديد مكانه وتبادل الرسائل معه أو زيارته، فبعضهم يتعاطف معه ويبدي حزنه على ما أصابه وما تعرض له، وفي المقابل يدعون أجهزتهم الأمنية إلى ملاحقة كل الذين ساهموا في أسره، أو شاركوا في إدارة ملفه، أو كان لهم دورٌ في تأخير أو تعقيد الإفراج عنه، وغيرهم يطالب بقتل كل الذين أفرج عنهم ضمن صفقة التبادل التي أفضت إلى استعادته من غزة، ويبدو أن جيشهم ومخابراتهم قد مضوا في هذا الاتجاه، وبدأوا في تصفية واغتيال أو إعادة اعتقال كل الذين أفرج عنهم ضمن صفقة شاليط "وفاء الأحرار".
لكن آخرين يتهكمون على شاليط ويستهزئون به، ويطلقون عليه النكت والطرائف، ويحيكون باسمه وحول حادثته قصصاً وحكايات، ملأى بالفكاهة والتنذر، ويظهرون أن حياته قد كلفتهم الكثير من حياة جنودهم وسلامة مستوطنيهم، وأن كيانهم قد تكبد الكثير في سبيل الإفراج عنه، في الوقت الذي لم يأخذ فيه احتياطاته اللازمة، ولم يقم بما يحول دون أسره، ولم يستبسل في مقاومة آسريه، ويصوره بعض مواطنيه أنه سلم نفسه لرجال المقاومة وقد كان بإمكانه أن يتصرف كزملائه في الموقع نفسه، ولكنه تصرف بصبيانية وعدم مسؤولية، ومكن المقاومة منه بسهولة، التي استطاعت أن تسجل من خلاله عليهم نصراً ما زالت أصداؤه تتردد، عند الفلسطينيين ومقاومتهم فخراً، وعند الإسرائيليين وحكومتهم خزياً ومهانة.
أما المخابرات الإسرائيلية والجهات الأمنية المختصة فهي لا تتوقف عن استجوابه والتحقيق معه، إذ تريد أن تعرف منه كل شئ، وأن تحصل منه على أبسط المعلومات وأدق التفاصيل، وهي تخضعه من وقتٍ لآخر لعملية استظهار الوقائع وبيان الحقائق، وذلك من خلال استعراض الصور له، ومساعدته في التعرف على الوجوه، في الوقت الذي ترسم له خرائط للأماكن، وتصمم له مواقع مشابهة لما تظن أنه كان محتجزاً فيها، علها تتمكن من خلاله من محاولة معرفة طبيعة آسريه، والطريقة التي يتعاملون بها، والوسائل التي اتبعوها واستطاعوا من خلالها النجاح المطلق في إخفاء مكانه، والحيلولة دون نجاح المخابرات وغيرها من معرفة مكانه، أو تحديد المربعات التي من الممكن أن يكون محتجزاً فيها.
يبدى الأطباء النفسيون وخبراء الاجتماع الذين يتابعون قصة شاليط استياءهم الشديد مما يتعرض له، ويصفون ما يلقى بأنه أكبر من قدرته على التحمل، وأنه يتعرض بما يسمع ويرى إلى ضغوطٍ نفسيةٍ كبيرة، مما سيكون لها آثار نفسية مباشرة عليه، ولهذا فإن بعضهم ينصحه بالسفر الطويل والغياب المؤقت عن المناطق المعروف فيها، في الوقت الذي يطلبون فيه من حكومتهم كبح جماح الأجهزة الأمنية، ووقف نهمها لعصر شاليط والضغط المتواصل عليه، ليحكي كل ما يعرفه، ويصف كل ما يستطيع وصفه، والاستفادة من تجربته في اكتساب خبرة حقيقة تكون قادرة على مواجهة قدرة المقاومة، وتستطيع إحباط أي مسعى جديدٍ لهم لأسر جنودٍ آخرين ومحاولة إخفائهم بنفس الطريقة.
كما شعر الأطباء النفسيون والمشرفون على صحة ونفسية جيلعاد شاليط بانزعاجٍ شديدٍ من الأخبار التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، وتلك التي نقلتها وسائل الإعلام المحلية، من أن شاليط قد تعرض لحادث سيرٍ مؤسفٍ وأدى إلى إصابته إصابةً حرجة.
وإذ نفى الأطباء والمشرفون النفسيون صحة هذا الخبر، فقد حذروا من مغبة التمادي في نشر أخبارٍ كاذبةٍ عنه، وحذروا من تأثيرها على صحته الجسدية وسلامته النفسية، ويرون أنه ينبغي مساعدة شاليط بدلاً من معاقبته، والتسرية عنه بدلاً من معاتبته، والتضامن معه بدلاً من تحميله المسؤولية، ويدعون بأنه كابد وعانى الكثير خلال فترة أسره واحتجازه، وأن مثل هذه الأخبار قد تزيد من معاناته، وقد تسبب له أضرار نفسية جديدة.
يخشى العدو الإسرائيلي على نفسية جنديٍ مجرمٍ كان يهم بقتل الفلسطينيين، وقد خرج لقصفهم وتدمير بيوتهم وتخريب حياتهم، بينما لا يبالون بشعبٍ يقتلٍ، ووطنٍ يدمرٍ، وأطفالٍ ييتمون، ونساءٍ ترمل، وشعبٍ يشتت ويمزق، ورجالٍ يعتقلون ويعزلون، ويحرمون من أطفالهم وينتزعون من بين أسرهم، فهؤلاء لا كرامة لهم ولا حس عندهم، ولا ينبغي الإحساس بهم أو التعاطف معهم، ولا يجوز مراعاة مشاعرهم ولا التخفيف عنهم والتسرية عن نفوسهم، فأي عدلٍ ينشدون، وبأي ميزانٍ يزنون، وبأي قانونٍ يحكمون.

بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 4/5/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]